حمير المدارس
بقلم الإعلامي والكاتب نادر أبو تامر


*الخُرج *
لما لم تكن مواصلات، قال لي مدير مدرسة، كنا نستعمل الحمير. نركب الحمار. من قريتنا البعيدة إلى المدرسة. كنا نقطع مسافة عشرة كيلومترات. نربط الحمار على مقربة من الساحة ونسير صوب مقاعد الدراسة. عدد الحمير كان كبيرا. كأنه موقف للسيارات. لم تكن لدينا رفاهية اليوم. لم تكن سيارات. ولم يوصلنا أهالينا إلى المدارس. لم تكن اختناقات. وكان أملنا كبيرا. أحلامنا كانت بحجم السماء. وكان الحمار ينتظرنا في مختلف أحوال الطقس حتى ننهي. مع ختام الدوام نركب الحمار ونعود إلى البيت بفخر شديد. عانينا كثيرا حتى وصلنا إلى الصفوف وخلال العودة إلى بيوتنا. بدون شوارع معبدة وفي ظروف عسيرة لكن إرادتنا كانت عظيمة. 
وكيف كان يأكل الحمار طوال النهار؟ هل ينتظرك بدون طعام؟
ابدا، قال، بالعكس. الخرج الذي يوضع على جلال الحمار له جيبتان. كل جيبة في جهة. في الجيبة الأولى كنت أضع حقيبتي المدرسية. فيها الدفاتر والأوراق وزوادتي.
وفي الجيبة الثانية؟
في الجيبة الثانية أضع القش والطعام الخاص بالحمار. عندما نصل إلى المدرسة نضع القش أمامه ليتناول منه حتى انتهاء الدوام.

*وفجأة*...!
كان متشددا جدا مديرنا. لم يتهاون. لم يتساهل. كان يعلمنا وكأنه والدنا. وكأننا أهم ما في حياته. كان التعليم رسالة. التأخر عن الدرس ممنوع. كنا نأتي من بعيد. كنا نسير على الأقدام. أو نركب الحمير. لم تكن مواصلات. لكن ذات يوم حدث أمر غريب. كانت الأمطار غزيرة. غمرت الطرقات. الحمير لم تستطع المرور في السيول. المياه عالية. وفي ذلك النهار كان عندنا امتحان. ولا بد من الوصول إلى المدرسة. المدير المتشدد لن يسمح لنا بعدم التقدم للامتحان. سيعاقبنا. عقابه شديد.
احضر الاهل تراكتور مع عربة. كل الطلاب صعدوا إلى العربة. وحالما بدأ يسير بدأت الوحول تتطاير. الوحول التصقت بالعجلات الكبرى. وتطايرت في الهواء. وهبطت علينا. كل الطلاب وصلوا إلى المدرسة وهم ملطخون بالوحول. غارقون في ألوان التراب. تأخرنا على الحصة. على الامتحان.
المدير المتشدد كان ينتظرنا. في الساحة. كان غاضبا جدا. كاد يفقد أعصابه. الشرر يتطاير من عينيه.
عندما رأى مناظرنا. ملابسنا بلون التراب. شعرنا يقطر وحلا. عندها احضر المناشف وبدأ ينشفنا وطلب منا أن ننظف أنفسنا. تعامل معنا بكل حنان. أعد لنا الشاي حتى شعرنا بالدفء. الحر بدأ يتسرب إلى عروقنا. سار معنا المدير إلى الصف وطلب من المعلم أن يسمح لنا بالدخول. طلب منه أيضا أن يعطينا المزيد من الوقت لنحل الامتحان. 
كنا سعداء لأننا تمكنا من تقديم الامتحان. الأهم كان بالنسبة لنا أمر آخر. المدير الشديد تحول فجأة إلى الملاك الحارس. إلى الأب الحنون. وبعد مرور نصف قرن ما زلنا نذكر هذه اللحظة.
هذا ما قاله لي مدير مدرسة كان طالبا في حينه وتعرض لزخات الوحول.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم