مَنْ علَّمَني حرفًا عشتُ لَهُ مُمْتَنًّا
 

يعودُ بيَ الذّكرُ الطَّيِّبُ للباقي فينا، الأستاذ نسيب عودة، إلى أواسطِ سنواتِ السَّبعيناتِ، مِنَ القرنِ الماضي، حيثُ كنّا تلاميذَ في صفيِّ الخامسِ والسّادسِ، في بناءٍ مستقلٍّ عنِ المدرسةِ الابتدائيّة "أ"، مدرسةِ "البيادرِ" اليومَ، التي كانتْ تبدأُ في كنيسةِ الرّومِ الأوثوذكسِ، كنيسةِ "القدّيسِ جوارجيوس"، وتنتهي بينَ يديِّ جامعِ "النّصرِ"، وفي حضنِ مقامِ "الخضر". وكنّا ننتقلُ بينَ أطرافِ البناءِ الموزّعِ في الحيّ قلبًا واحدًا، وكأنَّ الحيَّ كلَّه ساحةٌ للمدرسةِ.

 

انفردَ بناءُ صَفَيِّ الخامسِ والسّادسِ على أرضِ البيادرِ، التي تستخدمُ اليومَ موقفًا للسّيّاراتِ يَضيقُ بها ويُغطِّي معالمَ المكانِ الذي لَهُ مكانٌ فينا، ولكن ليسَ لَهُ موطئُ قدمٍ على الأرضِ، وكانتْ أرضُ البيادرِ تهنأُ ببركةِ أقدامِ "ستنا العذراء"، عندما اعتقدنا أنّها مرّتْ من هنا، أيّامَ طفولتِنا التي تُشبهُ الحلمَ الجميلَ. كُانتْ صداقتُنا تسبقُ الدّوامَ المدرسيَّ، يَتَحلّقُ الأترابُ حولَ القصيدةِ، يستذكرونَها، استعدادًا لحصّةِ اللّغةِ العربيّةِ للأستاذِ نسيب.

للأستاذ نسيب هيبةٌ ترافقُ خطواتِهِ، حركاتِهِ، صمتًهُ وأقوالَهُ، وكانّ لها وقْعٌ في نفوسِنا، فَاتَّسَمَ طابعُ علاقتِنا بالجِدّيّةِ والاحترامِ العميقينِ، وقد فرضَ هذا الطّابعُ نفسَهُ علينا كلَّ الوقتِ، وحتّى بعدَ غيابِهِ. وقد انخرطَ في ذاكرتِنا، وهو يعلّمُنا الأدبَ العربيَّ، قيمُ الإنسانِ التي على كلٍّ منّا أن يتمسَّكَ بها، وأوّلُها التّسامحُ، وثانيها العَفْوُ عندَ المقدرةِ، وثالثُها المحبّةُ الصّادقةُ، ورابعُها إغاثةُ الملهوفِ، وخامسُها المبادرةُ إلى فعلِ الخيرِ معَ الجميعِ، ودونَ انتظارِ المقابلِ عَنْهُ، وسادسُها الصّبرُ على الجار، فللجارِ حقٌّ عليكَ ولو جارَ... ولو أضفتم في كلِّ عامٍ قيمةً جديدةً إلى هذا الكنز، فمَنْ كانَ سيضاهيكُم بالغِنى في هذهِ الأرضِ؟!

 

لقد تتلمَذَ في صفّي على هذهِ القيمِ السّاميةِ التي بثّ روحَها فينا الأستاذ نسيب، عائلةٌ متماسكةٌ، متحابّةٌ مِنَ التّلاميذِ، لا يغيبٌ أحدُهم عن بالي أبدًا: أدهم بولس، كريم دلّه، وردة كرينّي، المرحومة ياسرة سكس، أسامة ملحم، وأخته التّوأم تغريد، فيصل صفيّة، فريد عبد الله، إبراهيم ميعاري، جورجيت زبانة، عزيزة مساعدة، منصور عبد اللّطيف، المرحوم عبد عبد اللّطيف، هيام خطيب، زاهية الياس، ابتسام سعدى، ولاء بصل، عمر وشاحي، نهى صقر، محمّد يوسف صفيّة، خليل فوّاز اندراوس، سناء ديب الحاج، نهى فوزي اندراوس، المرحوم طارق أبو عقل، محمّد قاسم علي، عدنان صفيّة، وداد صفيّة، ليلى شحادة، خالد أحمد الحاج ...

إنّ المعلّمينَ أصحابُ رسالاتٍ، لذلكَ هم لا يموتونَ أبدًا، يرتفعونَ برحيلِهم نجومًا، تُضيءُ سماءَنا وقلوبَنا، يعمرونَ الكونَ بضيائِهم، والنّفوسَ برسالاتِهم التي تنيرُ لنا الطّريقَ أنّى حلّلْنا، وأستاذُنا نسيب، إذ يرحلُ عنّا يسمو إلى سمائِنا نجمًا مضيئًا إلى الأبد، لكنّه يبقى ساكنًا قلوبَنا ما حَيينا.

 

عندما أنظرُ إلى وضعِ التّعليمِ اليومَ، أتحسّرُ على أساتذةٍ كبارِ النّفوسِ والقامةِ والثّقافة والإنسانيّة والشّخصيّة أمثال أستاذي الكبير نسيب عودة؛ ولكنّي أعزّي نفسي بإرثِهِ التّربويِّ والتّعليميِّ والاجتماعيِّ والإنسانيِّ، وهو ما يصلُنا من شعاعِهِ وهو متربّعٌ سيّدًا كريمًا بينَ النّجومِ؛ كما أعزّي نفسي بعائلتِهِ الأصيلةِ الجميلة التي تزيّنُ مجتمعَنا بأخلاقِها العالية: الزّوجةِ الفاضلةِ لميس، والابنِ البارِّ بأهلِهِ وبمجتمعِهِ عصام، والابنتينِ المـُكلّلتينِ بالشّرفِ والياسمين: عبير وليديا. 

 

إنّ العائلةَ التي امتدّت ساحةُ بيتِها من رحابِ الكنيسةِ، إلى كبدِ الجامعِ، إلى حضنِ "الخضر" تتألّمُ لرحيلِ الأستاذ نسيب عودة، وستظلُّ وفيّةً لتعاليمِ صاحبِ الرّسالةِ الخالدةِ، وهي تشاركُ آلَ عودة، وأهلَ البلدِ في هذا المصاب.

 

إياد الحاج 

30/12/19

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم