البحيرة والنهر والبحر والليل كمكان وزمان للحب في الفن الغربي
البحيرة والنهر والبحر والليل
كمكان وزمان للحب في الفن الغربي
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
اذا كان المحيط الواسع رمز اللانهاية، فإنّ هذا يجعلنا نفكر في أشياء أخرى: مرور الزمن كالنهر الجاري، والكأبة، أو الطمأنينة، ممثلة بالحيرة.
في قصيدة "البحيرة" (Le Lac) للشاعر الفرنسي الكبير "لامارتين" وهي تحفة الشعر الفرنسي الغنائي الرومانتيكي، نجد أنّ البحيرة هي شاهد على المشاعر الأكثر عمقًا وعاطفةً.
في أعمال أدبية أخرى، تصبح البحيرة مرآةً للنفس المضطربة. واحدى اللحظات الكلاسيكية تتواجد في عمل "ماتروني" المعروف بعنوان "الخاطب أو الخطيبة" (The Betrothed).
حيث تقول "لوسيا" بشكل مؤثر "للجبال التي ترتفع من المياة" الخاصة ببحيرة كومو، ذلك المكان الذي أصبح منذ ذلك الحين المفضّل للمنازل الثانية لكبار الشخصيات والمشاهير. كما يمثِّل مثال "أوفيليا" في مسرحية "هملت" لشكسبير، فإنّ المياه المختبئة وسط الريف الأخضر يمكن أن تصبح جاذبية قاتلة مهلكة للفتيات المتيمّات بالحب، حيث ينزلقن بصمت إلى غياهب النسيان بالانتحار. إنّ بعض الأشجار التي عادةً ما تنمو بجانب الممرات المائية، مثل شجر الصفصاف، الذي أصبح رمزًا للموت والطبيعة العابرة للزمن والحب.
من الجدير بالإشارة أنّه في القرن التاسع عشر، أصبحت البحار والمحيطات بمثابة آفاق الحلم اللامتناهية: تظهر مشاهد العاطفة والاغراء على الأمواج، وتتخذ لاحقًأ شكلًا اكثر ابتذالًا في "رحلات الحب".
رغم أن المكان والزمان التقليديين للأدب والأساطير اليونانية على الشواطيء الإيجية، فإنّ البحر كان يُنظر إليه لفترات طويلة كمكان عدائي، لا يؤدي بالتأكيد الى المساعي الغرامية، ففي أثناء فترة العصور الوسطى، فإنّ البحر كان عالمًا للشرّ والغموض، بكونهِ يشكِّل مساحةً غادرةً يدور فيها اللوياثان الهائل بصمت. إنّ قصة يونان الواردة في الكتاب المقدّس (العهد القديم) أي قصة يونس (في القرآن الكريم) التي غالبًا ما يتِّم تمثيل القصة في النقوش واللوحات الرومانية، تحذِّر من أخطار البحر، ومصير يوليسيس (كما تخيله دانتي في الجحيم من الكوميديا الإلهية) يقدّم لنا تأكيدًا ملحميًا ودراميًا في النهاية لقوتهِ المميتة ولقد أحيا عصر النهضة (Renaissance) صورة الحب المشحونة جنسيًا التي تم إلقاؤها على أمواج المحيط. إنّ أندروميدا الجميلة، المهدّدة من قبل وحش البحر وأخيرًا ينقذها بيرسوس، أصبحت النموذج الأدبي والمثال البصري لقتال الرجل المنتصر مع قوى البحر. إنّ الجائزة أو المكافأة يمكن أن تكون تحرير فتاة اسطورية، أو اكتشاف قارة جديدة، أو حتى فتح خط تجاري وراء راس الرجاء الصالح.
وفيما يتعلق بالليل كزمان للحب في الفن الغربي، فإنَّ الشعراء والفنانين تغنَوا بالليل كزمنٍ للغموض والعاطفة؛ تبدو الأهواء اكثر حصرية وكثافة، معلّقة على العتبة التي تفصلنا عن النسيان.
إنّ "سوناتا ضوء القمر" (Moonlight Sonata) لبيتهوفن، التي هي جوهر العاطفة الرومانتيكية، أثارت التنهدات من أجيال طلاب البيانو، ويظل دون أدنى شك من أفضل المؤلفات الموسيقية المعروفة. إنَّ الليل الذي يستحضره الشعراء في كل عصر وكل أرض هو نهر الوعي الصامت المظلم، الساحة المثالية لسبر أغوار أعمق المشاعر وكشفها. إنَّ الظلام يخفي الدموع، الطبيعة صامتة أو نائمة، القمر المتعذر الوصول إليهِ، الذي لا حراك له وغير مبالٍ، هو شاهد صامت على معاناتنا؛ والسماء المرصّعة بالنجوم هي عجب طبيعي رائع. إنَّ النوم، الظلام، والصمت يوحي بالمقارنة الأدبية الكلاسيكية بين الليل والموت. في صور الأهواء، نجد أنّ الظلام يفتح الباب للملذات الحسيّة والهجران، السريّة والكرب.
إنّ اصطناعية ليالي النهار الحالية في العالم الغربي، الكهربائية، المنسوبة الى المدينة، وما بعد الحداثة، تجعل فرصنا النادرة للتأمل في السماء المرصعة بالنجوم أكثر اغراءً. إنه لصعبٌ أكثر من أي وقت مضى ان نجد أماكن على الكرة الأرضية لنصب التليسكوبات، حيث لن يتمّ تقويض وظيفتها بسبب "التلوث الضوئي" المتفشي.
مما سبق، يتبادر إلى أذهاننا إلى أن الهروب إلى الجانب الآخر من العالم لإكتشاف الذات وبعدًا جديدًا للشعور بوضع آلاف الأميال في الخلف يعطي نسيجًا مختلفًا للعواطف.
من بين العديد من الصور الأدبية والبصرية للمناخات الغريبة، فإنّ أعمال "غوغوين" (Gauguin) لديهم مكان خاص بهم يشمل بكفاءة مجموعة كاملة من المواضيع المعقدة. تجمع اللوحات والمنحوتات التي أرسلها إلى فرنسا من تاهيتي وبولينيزيا بين الوصف والاقتراح. وباستخدامه لوحة واسعة مشبعة، استحضر نوعًا من الجنة الجنسية، حيث العري لا يثير الخجل، ويبدو الحب أمرًا طبيعيًا وسهلًا مثل قطف الزهرة.
وقد توفي غوغوين في جزر ماركيساس في فقر مدقع، لكن أعماله أصبحت منذ ذلك الحين نقطة الاتصال لوجهة النظر الغربية للثقافات غير المألوفة، مما أدى بالفعل الى بدء حوار بين الثقافات البصرية لمختلف البلدان وتحليلها.
ولقد أدرك العديد من الفنانين الأخرين الغموض والجاذبية الجنسية في الثقافات البعيدة بما في ذلك ديلاكروا، إنجرس وجيروم.
وهكذا نجد فيما تقدّم وتأسيسًا على ما ورد في السطور السابقة الأضداد والغرابة فيما يخص الجوانب آنفة الذكر للحب في الفن الغربي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات