ستبقى في ذاكرتنا وفي قلوبنا باسمًا وسعيدًا 

      تمضي خطانا الهوينا بتؤدَةٍ ورفقٍ، في الموكبِ الجامعِ، من الكنيسةِ الباكيةِ، إلى حيثُ يصبُّ جدولُ المدامعِ وهو خاشعٌ. ننظرُ في عيونِ بعضِنا الحزينةِ، ونبتسمُ، فنخجلُ من ابتسامتِنا الفاضحةِ، ونكتمُ ما يُلحُّ على الإفصاحِ بهِ، نُخفي ما يفرضُ نفسَهُ على لحظةِ الواقعِ الرّاهنة، فكيفَ نقولُ إنّكَ تسيرُ معنا باسمًا في جنازتِكَ المَهيبةِ، ونحنُ نرفعُ نعشَكَ على رموشِ عينينا؟!
     نمشي في موكبِ الجنازةِ مِشيةً قصيرةَ الخطوِ، هادئةَ الوقعِ، كمِشيتِكَ التي تلتفتُ يمينًا فتبتسمُ، تُديرُ مَرَحَها يسارًا فتُلقي التّحيّةَ بأحسنَ منَ التي كنّا نَنوي أنْ نطرحَها عليكَ؛ كنتَ تتفوّقُ علينا كلَّ يومٍ، ولم ننجحْ، ولو مرةً واحدةً، أنْ نباغتَكَ بتحيّةٍ مَرِحةٍ كروحِكَ، أيّها الباسمُ دائمُ الخُضرةِ، والسّعيدُ كالعيدِ على مدارِ السّنةِ. 
      من كلِّ حارةٍ، جاءَ الأهلُ، لم يُرسلِ المسنونَ التّعازي مع الشّبابِ، بلْ جاؤوا مُعزّين، واجمينَ، غيرَ مُصدّقينَ، لائمينَ، مستغربينَ، مستعجبينَ، نادمينَ، لأنّهم لم يقولوا لكَ كمْ أحبّوكَ وأنتَ تملأُ قلوبَهم فرحًا ومرحًا! لأنّهم لم يحضنوكَ وأنتَ تشاركُهم حُلْوَ أيامِهم ومُرَّها! لماذا لم يُقبّلوا جبينَكَ وأنتَ ترقدُ في سريرِ المرضِ في المَشفى، الذي عُدتَهُ بعددِ سنيِّ عمرِكَ، دونَ أنْ تتألّمَ، أو تتذمّرَ، أو تتضجّرَ، أو تضيقَ ذرعًا بهذه الدّنيا، يا أبا أيوبّ!  
      كنتَ تدخلُ البيتَ كأنَّكَ صاحبُهُ، وصاحبُ البيتِ ضيفُكَ، فتقومُ بِقِرى الضّيفِ، ولو لم يتبقَّ ممّا تملك سوى جوادِكَ الأصيلِ، أيّها الجوادُ الأصيلُ! كانَ المالُ حقيرًا كالغبارِ العالقِ في كعبِ نعلِكَ؛ واكتشفنا ثروتَكَ الحقيقيّةِ التي لا تُحصى، ولا تُعَدُّ، ولا تُقدّرُ بثمنٍ، كانَ رصيدُكَ الذي تعجزُ عن احتوائِهِ المصارفُ هو محبّةُ النّاسِ لَكَ، يا حبيبَ البلدِ بجهاتِها الأربعِ، وحاراتِها السّبعِ، وأجيالِها المرتويةِ من محبّةِ النّبعِ. 
      إنَّ فمَكَ الباسمَ، في السّرّاءِ والضّراءِ، يزيّنُهُ شاربانِ، رفيعانِ، رقيقانِ، أسودانِ، فوقَ بياضِ بَشرتِكَ، وبياضِ قلبِك، سيبقى علامةً مميّزةً لنقاءِ القلبِ، وسلامةِ النيّةِ، ونظافةِ اليدِ، وصدقِ القولِ، واستقامةِ الفعلِ، والحُبِّ لغيرِكَ كما تُحبُ لنفسِكَ. وجهُكَ المُشرقُ بمحبّةِ النّاسِ هو أصدقُ صورةٍ لروحِ كفرياسيف الحبيبةِ. 
      لقد أتقنْتَ التّعايشَ المتوازنَ بينَ التّواضعِ وعزّةِ النّفسِ، بينَ البساطةِ والكبرياءِ، بينَ احترامِ النّفسِ وإجلالِ الآخرِ، بينَ الأخذِ مقابلَ العملِ الشّريفِ والعطاءِ دونَ مقابلٍ، بينَ عائلتِكَ الصّغيرةِ، خيرِ الخَلَفِ وعائلتِكَ الكبيرةِ التي زدتَها شرفًا على شرفٍ. 
      نِعْمَ ما تركتَ لنا، من سيرةٍ طيّبةٍ، ومن طيبةٍ سائرةٍ على الشّارعِ العامِ الذي أَودى بجسدِكَ، لكنّه لم يقوَ على سيرتِكَ الحسنةِ! ونعمَ ما تركتَ لنا من عائلةٍ كريمةٍ، هي بعضٌ من نفسِكَ الكريمةِ، يا كريمَ النّفسِ والأصلِ والفضائل! ستبقى في ذاكرةِ كفرياسيف، وفي قلبِها النّابضِ مُحبًّا، محبوبًا، باسمًا بما حملت سعيدًا بما تحمّلت ! 

أخوك 
إياد الحاج  

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم