أين اختفت الأشجار؟! بقلم: سهير نقولا شحادة
أين اختفت الأشجار؟!
بقلم: سهير نقولا شحادة
استيقظت القرود في صبيحة هذا اليوم على واقع غريب، وقد أصابتها حالة من الارتباك، فَكيف وصل بها الأمر لتستفيق على اليابسة بين الحشائش والأعشاب بعد أن قضت ليلتها الأخيرة في أعلى الشّجر...؟!
-"يا للغرابة! أين اختفت الأشجار؟ ألم تتعب جفوننا من النّعاس ليلة أمس وغرقنا في النّوم بين أحضانها؟! صاح صوت منهم.
أثار هذا الحدث الرّعب في نفوس القرود، فهي اعتادت أن تقضي لياليها نائمة قريرة العين عند فروع الأشجار، تلتحف بأغصانها المورقة وأزهارها، فيضوع عطرها بين طيّات النّسائم والخمائل.
أسئلة كثيرة جالت فيما بينها بعد هذا الأمر المريب، ممّا أثار الشّكوك والأسئلة من جديد، لكنّها ما لبثت أن تكثّفت حين لم يصلها أيّ جواب...
ماذا ستفعل القرود الآن؟ كيف ستقضي لياليها وأَنْهُرها دون مأوى لها ليقيها من حرّ الصّيف اللّاذع وقساوة الشّتاء القارس؟!
بدا للوهلة الأولى بأنّ حرّ القيظ أذاب كلّ أمل في إيجاد مخرج للمأزق الغريب، لولا تدخّل أحد الشّيوخ من القردة للسّيطرة على زمام الأمور في تلك المنطقة الواسعة واستلام مقاليدها. وقد عُرفَ عن هذا الشّيخ بقوّة فراسته وأصالة رأيه وثباته على مبادئه ممّا جعلها تهدأ وتلتقط أنفاسها وتعتمد عليه في البحث عن حلّ للكارثة الّتي ألمّت بها.
"إنّ حالنا لن يستمر وقتًا طويلًا، ولم يبقَ لنا مكان أو مضجع نبيت فيه غير هذه الأرض التّرابيّة، ولا مسند نسند إليه رؤوسنا غير ذلك المسند من الهشيم. وهو أمر لا يقبل به عقل ولا منطق لذا علينا أن ننطلق في مسيرة بحث عن مكان تكثر فيه الأشجار والأجمات والغيضات حتّى نحمي أنفسنا من هجوم الأعداء أثناء اللّيل.
انطلقت القافلة في الحال وتأجّجت شعلة الأمل في صدورها وأخذت جرعة من الرّجاء نحو غد أفضل...هذا الشّعور تولّد بعد أن استمعت إلى نصائح الشيخ وارشاداته الأبويّة.
قضت القافلة أيّامها الأولى وهي في حالة من التّعب والإرهاق الشّديدَيْنِ، حيث لم تجد بعد رحلة سير طويلة على الأقدام أثرًا للأشجار والأجمات، كأنّ فيضانًا عجيبًا سحق المكان وجرّده من طبيعته الخضراء فحوّل البسيطة إلى أرض خالية مقفرة جرداء.
تشاور الأفراد فيما بينهم واتّخذوا قرارًا عاجلًا وذلك بعد موافقة زعيمهم بضرورة إيجاد حلِّ بديل مؤقّت ريثما تواتيهم ظروف أفضل. وبالفعل حاولت القردة المبيت في جحور داخل التّراب وبين الصّخور كبعض الحيوانات الأخرى، كما حاولت تشييد ملاجئ عند الصّخور والمنحدرات الجبليّة كنوع من الحلّ المؤقّت، إلّا أنّها لم تحتمل العيش والنّوم في هذه الأماكن.
"لا يمكننا العيش والنّوم داخل الحفر وفي الصّخور...إنّها عقوبة إعدام على عمل لم نقترفه..." قال أحد القردة، ثمّ جاء صوت آخر يقول:
"لا يمكننا أن نكون من الضّحايا والأجلاف في نفس الوقت! كيف أكون لنفسي القاضي والجلّاد والمتّهم الّذي لا ذنب له سوى أنّه يطلب حماية نفسه والعيش عيشة كريمة في مكانه الطّبيعيّ..."
" وأنا لا أقبل بذلك، عيشة الحفر والجحور لا تناسبنا نحن معشر القرود..."
تعالت الأصوات الرّافضة وطالبت بضرورة إيجاد حلّ مناسب للعشيرة يحرّرها من خطر الموت المحدّق بها خاصّة حين افتقرت إلى مكان تطمئنّ فيه على حالها.
أدرك القردة وهي في لحظات هدوئها بأنّ لا شيء أغلى من الحياة في أمان ولا أثمن من قوم يدرك هويّته.
اجتاحت تلك النّفوس مشاعر مختلطة فيها الآسى والفرح؛ الأسى للحالة البائسة الّتي وصلت إليها، والفرح في التّكاتف الّذي يتوسّمون به لضمان سلامة الجميع.
هذا الأمر أعاد إضرام شعلة الأمل من جديد، فلا بدّ من البحث مجدّدًا عن الأشجار الحبيبة وإيجادها...حينها حتمًا سيهرول الجميع صوبها ويعتلونها بلهفة ليضمّوا فروعها وأغصانها وأوراقها النّديّة وكلّ ما فيها بحنان ولوعةٍ.
كم كانت الفرحة كبيرة حين وصلوا إلى تلك الشّجرة الضّخمة. شجرة غليظة الجذع تتوسّط في مكان فسيح لا يحدّه حدّ، تكثر فيه الأعشاب الخضراء كأنّ هنالك مَنْ جاء وافترشها ببساطٍ أخضر يلوح منه لون الأقحوان الأصفر.
كانت الشّجرة تقف شامخة كعروس تحمل في كفّيْها باقة من الزّهور المخمليّة وهي تشوق إلى قدوم الحبيب؛ كأنها تعلن عن محبّتها الأبديّة وعينها السّاهرة لرعاية من سيشاركها الحياة في السّرّاء والضّرّاء.
راحت القرود تثب وتقفز وتصيح بفرح لا يوصف، كيف لا، وقد وجدت ملاذها الواحد والوحيد؟!
كان طلوع الفجر جميلًا وساحرًا لأيّام متتالية فيها تنعّمت القردة بحياتها في مسكنها الجديد، إلى أن جاء ذلك الفجر ليفجّر مفاجأة لم تخطر ببال أحد من القادمين الجدد...فالشّجرة الضّخمة مأهولة بالسّكّان؛ سكّان يتّصفون بالغرابة في السّلوك والمظهر، فظهرت علامات من الرّيبة والشّكّ على وجوه القرود، وراحت تتوخّى الحيطة وتأخذ بالحذر في أمرهم.
"لا أشعر بالطّمأنينة حيال هؤلاء، وما يرعبني أكثر هو الهدوء الغريب الّذي يسيطر عليهم!!" قال أحد القرود. وهمس قرد آخر بصوت هسيس:
"إنّ نظراتهم الغريبة تعلن أمرًا سرّيًّا سيحدث قريبًا ولا يبشّر بالخير!! علينا الحذر منهم.."
انتظر الجميع أن يبدي شيخ القرود رأيه وموقفه وهم في أشد حالة من التّوتّر، فالرّهبة أماتت لديهم الجلادة والصّبرَ. ظلّ الشّيخ صامتًا لفترة من الزّمان وهو يستعيد بلجاجة ما مرّوا به خلال الآونة الأخيرة. أما البقيّة فقد لبثوا في مكانهم ينتظرون سماع رأيه السّديد والحكيم.
أطال الشّيخ في التّفكير وراح يحدّث نفسه: " أنّ الأمور الخفيّة هنا هي أعظم ممّا مررت به في حياتي...". التفت الشّيخ إليهم وقال هامسّا:
"نحن في أمس الحاجة لنكون ذوي حكمة وتعقّل، لا سيّما أنّنا جئنا إلى هذا المكان نطلب الأمان...وأنتم تعلمون ما تكبّدناه من تعب ويأس خاصّة حين لم نجد ملاذًا آخر يحمينا من هجمات الحيوانات المفترسة والثّعابين. نحن لا نعرف القاطنين هنا، وربّما نكون قد أسأنا في تفكيرنا وتركنا أحاسيسنا تطغى على فكرنا السّليم...سنبذل جهودًا حسنة في سبيل بناء علاقات ودّيّة مع السّاكنين هنا، وفي نفس الوقت لنجعل نفوسنا ظمآى تبحث عن المورد لمعرفة ما يدور حولنا حتّى نحافظ على كياننا..."
ساد الصّمت بعد حديث الشّيخ وراحت كلّ جماعة تجلس في مكان ما في أعالي الشّجرة حيث لا يغلبها النّعاس ...
أفاق الجميع على صوت صادح يردّد:
"حان الوقت لتسديد فاتورة الإقامة...لا شيء مجانًا على هذه الشّجرة...لينزل القادمون الجدد إلى تحت...التّجمّع تحت ظلّها...فالقائد سيلتقي بكم بعد دقائق.
نزلت القردة عن الشّجرة وهي في حالة من الذّهول، عن أيّ قائد يتحدّث؟ وأيّة فاتورة يقصد؟!
اهتزّت اليابسة بشدّة حين وثب القائد عن الشّجرة وانتصب واقفًا أمام معشر القرود. كانت هيئته تومئ إلى شراسة قلبه، ومشيته توحي انّه صاحب نفوذ وسُؤْدُد.
- " ليس غريبًا أن يأتي الغرباء والضّيوف ليسكنوا في ربوعنا الجميلة، فالمكان يتّسع للجميع. إذا كنتم بمثابة ضيوف لأيّام معدودة، فمرحَّب بكم. لكنّني أرى بأنّكم استوطنتم مكانًا ليس لكم ولا يخضع لسيادتكم بل لسيادتي أنا وهذا الأمر لا يمكن السّكوت عنه. مَن ينوي الإقامة الدّائمة فعليه تسديد فاتورة وضريبة الإقامة والتّوقيع على دستور يخص سيادة الشّجرة وسيادتي أنا".
لم ينبس أحد ببنت شفة بل أخذتهم حالة من الذّهول، أمّا هو فراح يختال في مشيته ثمّ وقف أمام الشّيخ وقال:
- " أمامكم يومًا كاملًا لمعاينة الدّستور وتفحّصه. بعدها سيكون قراركم أمّا الرّحيل أو البقاء..." اختتم قوله هذا واختفى بعدها عن الأنظار.
مكثت القرود في مكانها تنتظر أن ينتهي الشّيخ وأعوانه من قراءة الدّستور
فهي لم تكن قادرة على مغادرة المكان والجوّ لا يخلو من إمارات التّعجّب والاستياء.
انتهى الشّيخ من قراءة الدّستور وأطلق تنهيدة عميقة.
"ماذا هناك؟ على ماذا ينصّ الدّستور؟" سأل أحد الحاضرين.
وقف الشّيخ في وسطهم وقال دون تردّد:
"ما أضعف حيلتنا أمام مكائد الطّغاة...لا يمكننا قبول هذا الدّستور.
الدّستور برمّته يشرّع الشّيء ونقيضه؛ الكذب والصّدق، الوفاء والخيانة...
الطّبيعة وما يناقض دستورها...وهذا الأمر يُعدُّ أخطر من الحياة ذاتها... يهدّد كياننا كجماعة وكأفراد، بمقدوره سحق هويّتنا وإلغاء حتّى بصمة كلّ واحد فينا...صحيح ان الشّجرة تكتسي بحلّة بهيّة تحبس الأنفاس بجمالها، لكنّ السّوس ينخر فيها بشدّة، علينا المغادرة قبل أن يصلنا السّوس نحن أيضًا".
شعر الشّيخ بما تشعر به القرود، فهي تمنّت لو تتمكّن من التّحليق بين أذرع الحياة دون أن تكون أسيرة القيود.
أمسك الشّيخ بعصاه ونظر إلى الأفق البعيد قائلًا:
" جميعنا سنترك المكان مع طلوع الفجر. فما الأفضل لنا؟ أن ننال حرّية الموت أم أن نكون أسرى في قبضة الحياة؟! لن نكون كالمغلوبين أمام وجه الشّمس".
انطلقت القافلة من جديد وقد تحوّلت مراميهم إلى البحث عن حياة حبلى بأمل جديد.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات