المعلّمة الباقية بكلّ إيمان

بقلم الاستاذ اياد الحاج 

(دمعةُ مدرسةٍ وقريةٍ ومجتمعٍ على خسارة جسدِ المربيةِ إيمان شحادة عوض في معركةِ البقاء، رغمَ الفوزِ

بسيرتِها الحسنةِ، وعطائِها النّافعِ، وأخلاقِها العاليةِ، وأفعالِها السّامية)

عدْنا قبلَ قليلٍ، إلى بيوتِنا نُواسي بعضَنا، من هولِ المصابِ، فلم يكنْ باستطاعةِ أحدِنا أنْ يَحملَ الحزنَ كلَّهُ، كنّا بحاجةٍ لاقتسامِهِ معَ الآخرينَ، لكي يتحرّرَ الوجهُ من بعضِ انقباضِهِ، والقلبُ من يسير انكماشِهِ، والعينُ من بعضِ غرقِها في ماءِ الوجعِ العميقِ، لنكتشفَ أنّنا ما زلْنا هناكَ، في وداعِها الذي يتمرّدُ على الوقتِ ويأبى الانقضاءَ كسائرِ الأوقاتِ. وأنا أكتبُ كلماتي الآنَ من خلالِ هذا الوداعِ الممتدِّ في المكانِ والزّمانِ.

واكتشفْنا أيضًا، شيئًا غريبًا، لقد حملَ الشّبابُ نعشَكِ على أكتافِهِم بكلِّ جَلالٍ وهيبةٍ، تمامًا كما يَرفعُ الطّالبُ المؤدَّبُ اسمَ معلّمتِهِ، وكما يعلو شعاعُ الشّمسِ بحبّات الماءِ المتبخّرةِ ساميًا نحوَ الغيمِ، ليعودَ إلينا مطرًا عميمًا، حملوكِ ونحنُ نُحيطُهم بكلِّ الصّمتِ والوقارِ والألمِ، وعندما انتهتِ مراسمُ التّشييعِ والدّفنِ وتقديمِ العزاءِ، قصدْنا بيوتَنا، لكي نُجالسَ أرواحَنا المتأذّية، ونُهدّئَ من اضطرابِ أفئدتِنا، تحسّسنا أنفسَنا فوجدْناكِ فينا، فَمَنْ دفنّا في المقبرةِ، هناكّ قبلَ قليلٍ، أيّتُها الباقيةُ!!!

مَنْ قرأَ عنْكِ حزنَ وتذمّرَ من ظلمِ الأقدارِ، وَمَنْ سمعَ عنْكِ تألّمَ حتّى البكاءِ المُرِّ، وَمَنْ عَرَفَكِ حقَّ المعرفةِ ما زالَ شاردَ الذّهنِ مذهولًا من عظمةِ النّازلةِ، فلا تؤاخذينا أيّتُها المربيةُ على تلعثُمِنا وتأتأتِنا ووشوشتِنا المُتغمغمةِ، فكيفَ يستقيمُ القلبُ واللّسانُ تحتَ عبءِ هذهِ النّائبةِ.

يتردّدُ في مدارسُنا صدى صوتِك الرّزينُ المُحبُّ الهادئُ الذي يتغلغلُ في وعيِ التّلاميذِ مهما كانتْ تربتُهُ وعريّةً، فحبّاتُ المطرِ التي لا تكفُّ تزخُّ تليّنُ شوكَ البِلّانِ، وتغسلُ عاليَ الأشجارِ من تراكمِ الغبارِ، وتُنبتُ في عزِّ المواسمِ أطيبَ الثّمارِ. يبقى صوتُكِ جزءًا من بناءِ المدرسةِ، وهدوءًا مُريحًا يسكنُ في فضائِها، وحصّةً ممتعةً ومفيدةً في برنامَجِها ينتظرُها بشوقٍ تلاميذُها، وحبًّا صادقًا في قلوبِ معلّميها وأولياءِ أمورِها وروّادِها.

يُجيدُ رثاءَكِ اليومَ، استعدادُكِ المتأهّبُ لتقديمِ العونِ، تستشعرينَهُ، فلا حاجة لِطلبٍ مسموعٍ أو مهموسٍ، عيناكِ جوابُ شافٍ لحاجةٍ لم توفّرْها الحياةُ لأحدِ أبنائِها، لقد وفّرتْ لنا الحياةُ الظّالمةُ أحيانًا، وما أكثرَ هذه الأحيانَ، نقيضَها، أيّ أحدَ أسبابِ العدلِ فيها، لقد حظَيْنا بمربيةٍ فاضلةٍ تضعُ إبريقَ الفخّارِ على حافّةِ النّافذةِ يرشحُ بالماءِ الزُّلال مكلّلًا بالحبقِ ليرويَ عطشَ السّابلةِ.

كيفَ نميّزُ أبناءَكِ من بينِ الشّبّانِ والفتيانِ الذينَ يملأونَ المكانَ ويشغلونَ الزّمانَ، أيٌّ منهم جورجُ، وأيٌّ منهم هيثمٌ، وأيٌّ منهم يزيدُ؟! كلُّهم أبناؤُكِ أيّتُها المعلّمةُ المُحِبّةُ المُجِدَّةُ المُجِلَّةُ؛ فطوبى للمربيةِ التي يكثرُ أبناؤُها دون أنْ تلدَهم، ورُبَّ أخٍ لكم، يا جورجُ وهيثمُ ويزيدُ لم تلدْهُ أمُّكُم!

يَطغى الحزنُ على الفراقِ المادّيّ على كلِّ حزنٍ سابقٍ، ويوجعُ القلبَ ألمٌ عميقٌ، فأصعبُ الأوجاعِ حاضرُها كما قالَ أجدادُنا، أصعبُ الأوجاعِ فراقُ الأحبّةِ، ولكنَّ ما سكنَ فينا من روحِكِ، وما يقيمُ في نفوسِنا من عظيمِ أخلاقِكِ، وما تخلّدَ في مجتمعِنا من عطائِكِ، ومن أحاطَ بكِ من أفرادِ عائلتينِ كريمتينِ عزيزتينِ، ومن أحبّكِ حتّى العشقِ الزّوجَ العمادَ العِمادَ والأبناءَ البررةَ هم دواءُ جرحِنا المفتوحِ بهذا الفراقِ. إيمانُ باقيةٌ فينا بكلّ الإيمانِ!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم