بينَ ميلادٍ وميلادٍ!
بينَ ميلادٍ وميلادٍ!
(في تأبينِ قصفةِ الحبقِ التي لم يكتملْ ربيعُها، ولكنَّ عطرَها يملآُ الأجواءَ، المُستعجلِ في رحيلِهِ، ميلاد عفو أبو عقل)
ونحن نحصدُ القمحَ، جريًا على تقاليدِ الأجداد: "في أيّار احمل منجلَك وغار"، يأتينا النّبأ يجرُّ رجليهِ مُطرقًا عابسًا مُتجهّمًا، يقفُ فوقَ رأسِ الفلّاحِ عاجزًا عن الكلامِ، والفلّاحُ مهمومٌ مُرهقٌ يسابقُ الزّمنَ ليصلَ إلى موسمِ الفرحِ القادمِ في الصّيفِ الدّاهمِ، يسمعُ ولا يصدّقُ يأخذُهُ الوجومُ ويُشتتُهُ الشّرودُ ...
في أيّارَ، الأخِ الأصغرِ في عائلةِ الرّبيعِ المحتفلةِ بميلادِ الحياةِ في هذه الأيّامِ الملوّنةِ بالعطرِ والدّفءِ وألطفِ النّسماتِ، يأتي النّبأُ ونحنُ بعيدونَ عن الخريفِ، ويفصلُ بينَهُ وبينَنا صيفٌ طافحٌ بأفراحِ النّاسِ، وتنتظرنا زفّةُ العريسِ، فكم يحتاجونَ إلى الفرحِ بعدَ الحصادِ، وقد جهّزَ الحلّاقُ الموسى الذّهبيّةَ، والعائلاتُ تنتظرُ أولادَ الأعمامِ ليزفّوا العرسانَ، فكيفَ يبغتُنا النّبأُ الآن؟!
كانَ أمامَ ميلادٍ ربيعٌ مزهرٌ لم ينقضِ بعدُ، فكيفَ يسقطُ الغصنُ الأخضرُ من علٍ وهو في ذروةِ نضارتِهِ وغضاضتِهِ، وأنتَ غصنٌ في شجرةٍ تلفّها الأغصانُ القويّةُ الضّاحكةُ من كلِّ جانبٍ، وتضربُ جذورُها في ترابِ البلدِ حتّى تُلامسُ الصّخرَ، وهي تقدّمُ لنا ما لذَّ وطابَ منَ الظّلِّ والفاكهةِ؟!
بينَ ميلادٍ وميلادٍ حياةٌ وموتٌ، فبينما تلدُ الحياةُ نفسَها من جديدٍ، بينما تنبعثُ الطّبيعةُ بأبهى صورةٍ وأحسنِ حلّةٍ، وبينما نحنُ نستعدُّ لموسمِ الفرحِ، يثبُ على نفوسِنا نبأُ وفاةِ ميلاد ثانيًا مشاعرَنا عن اتّجاهِها، ومُثيرًا الاضطرابَ في قلوبِنا، ومُسيلًا الدّمعَ في عيونِنا مِدرارًا.
موتُ ميلادٍ تناقضٌ ليسَ منَ السّهلِ تسويتُهُ في وعيِنا، وخصوصًا لمن تمتّعَ بمعرفةِ ميلادٍ هادئٍ كالصّبحِ، صافٍ كالأجواءِ في أيّارَ، مُتأنٍّ كأوّل المطرِ، صبورٍ كبلادِنا صغيرةِ الجِرْمِ عظيمةِ الحِلْمِ، طيّبٍ كأجدادِنا الذينَ أورثونا أثمنَ أمانةٍ وأعزَّ وصيّةٍ بأن نحافظَ على علاقاتِنا الأخويّةِ في عائلتِنا الإنسانيّةِ التي حضنتْنا، وأن نحميَ وحدةَ صفِّنا برموشِ عيونِنا في مسيرةِ بقائِنا الكريمِ.
ما زلنا نَجمعُ الأعلامَ الحمراءَ التي رفرفتْ في يومِ العمّالِ العالميِّ، هذه الرّايةُ التي خفقتْ في سماءِ قارّاتِ العالمِ، كما خفقتْ في سماء بلادِنا، فماذا أبقى رحيلُكَ يا ميلادُ من فرحِ عيدِ الملايينِ من أمثالِكَ، في نفوسِنا، عذرًا منكِ أيّتُها الرّاياتُ إنْ سالتْ قطراتُ الدّمعِ على قماشِكِ الأحمرِ، فطالما اختلطتْ هذهِ الأعلامُ بحبّاتِ العرقِ والدّمعِ والدمِ، ولسانُ حالِنا يقولُ: سنظلُّ نطالبُ بتوفيرِ شروطِ الأمانِ في العملِ علّنا نمنعُ المصيبةَ القادمةَ!
حزنُنا عليكَ كبيرٌ يا ميلادُ، ولكنّنا محكومون بقدرِنا مثلَك، فاعذرْنا إن اكتفينا بالبكاءِ، ونحنُ يا ميلادُ نفقدُ الأحبّاءَ، أمثالَكَ، بغزارةِ المطرِ الذي تباركْنا بهِ في هذا العامِ، وكأنّ الحياةَ تقولُ لنا إنّها تُعطينا بقدرِ ما تأخذُ منّا، تمنحُنا من خيرِها كما تحرمُنا ممّا نشتهيهِ فيها، تملآُ حياتَنا فرحًا مثلما تُثقِلُ أفئدَتَنا حزنًا، وعلينا أن نتعايش مع عطائِها وحرمانِها.
- من ميلادٍ ألوانُ الرّبيعِ الزّاهيةِ، وشذى عطورِهِ الزّاهرةِ، وصفاءِ أجوائِهِ العامرةِ، تبقى غصونٌ تلفُّ الشّجرةَ من كلِّ النّواحي بالخيرِ والظّلِّ والجمالِ، يبقى من ميلادٍ كلّ الحبّ الذي يتّسعُ لكلِّ النّاسِ، وتبقى العائلةُ الكريمةُ العريقةُ تُعطينا خيرَ خلفٍ لخيرِ سلفٍ.
إياد الحاج
كفرياسيف
23/5/2022
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات