تستردُّ الأخلاقُ نُبلَها
تستردُّ الأخلاقُ نُبلَها
تتعالى أصواتُ البكاءِ من حولي على فراقِ نبيل كريني. ها هو النّملُ يبكي وينوحُ ويندبُ. لم تَدُسْ قدمُ نبيل نملةً، ولا مرّةً واحدةً. كانتْ قدمُهُ تتحسَّسُ التّرابَ، وما عليهِ، وما فيهِ، ولا تُرخي وزنَ الجسدِ دفعةً واحدةً، تتدرّجُ بالثّقلِ، وهي مصغيةٌ لأصواتِ الطّبيعةِ، وهي على أُهبةِ الاستعدادِ للانسحابِ، إذا كانَ التّقدّمُ فيه مِنَ الأذى ما يزعجُ أحدَ الكائناتِ.
يتعالى من حولي صوتُ بكاءِ الماءِ العَكِرِ، يُمَعِّطُ شعرَهُ، ويشقُّ ثوبَهُ، لأنَّهُ يستحيلُ أنْ يجدَ عذوبةً كنبيل يُستساغُ بها، كانَ نبيل يُشربُ معَ الماءِ العَكِرِ، فيستلذُّ شاربُهُ الماءَ الزّلالَ، فكيفَ لا يُمَعِّطُ شعرَهُ ويشقُّ ثوبَهُ، فمَنْ سيشربُهُ بعدَ اليومِ؟!
يرتفعُ صوتُ النّحيبِ من حولي، إنّها الصّداقةُ، تجلسُ على الرّصيفٍ حاسرةَ الرّأسِ، يعلو رأسَها الشّيبُ الوقورُ، تولولُ وتذرفُ الدّمعَ مِدرارًا، تبكي أحبَّ الأبناءِ إلى قلبِها، رغمَ أنَّهُ أخذَ منها الكثيرَ، وأبقى لها القليلَ. تبكي نبيل الذي كانَ يمشي فترشحُ الصّداقةُ من جسمِهِ، ومن نفسِهِ، ومن عقلِهِ، فيتكاثرُ حولَهُ الأصدقاءُ أينما وطأتْ قدماهُ بلطفٍ هذه الأرضَ.
تلبسُ الطّيبةُ ثوبَ الحدادِ. لقد بحثتْ في نفوسِ الأحفادِ عن صدرٍ واسعٍ، وقلبٍ كبيرٍ، ونَفَسٍ طويلٍ، وغضبٍ حليمٍ، وفكرٍ سميحٍ، ولسانٍ مُثقَّفٍ مُهذَّبٍ مُؤدَّبِ، فحطّتْ رحالَها فيكَ من بينِ أحفادِها الكثيرينَ؛ لقد حرصَ عليها أجدادُنا وآباؤُنا، وصانوها برمشِ الجيرةِ الحسنةِ، والعيشِ الأليفِ، والمحبّةِ الوارفةِ، فآتمنوكَ عليها يا نبيل!
عندما منحتْكَ الأخلاقُ نُبلَها، وعاشتْ موصوفةً بدونِ صفة، شعرتْ بفداحةِ الخسارةِ، فقد خسرتْ شخصيّتَها، وملامحَها، وصفتَها التي عُرِفَتْ بها؛ فاستردّتْها في الثّامنِ مِنْ تشرينَ الثّاني للعامِ التّاسعِ عشرَ بعدَ الألفَينِ، لكنّها ندمتْ، وها هي تجهشُ بالبكاءِ، لأنَّ النُّبْلَ أصبحَ روحَ نبيل، وقد انتزعتْ روحَهُ لتبعثَ روحَها؛ لقد أصبحَ نبيل صفةً مُشَبَّهةً للأخلاقِ بعدَ هذا اليوم.
يختلطُ بكاءُ النّملِ، بسيلِ الدّمعِ للماءِ العكرِ النّادبِ، بنحيبِ الصّداقةِ، بأنينِ الطّيبةِ المـُجهشة بالبكاءِ، بندمِ الأخلاقِ المفجوعةِ، بوجعِ أمِّنا الحبيبةِ مريمَ، أيقونةِ المحبَّةِ السّاكنة في قلبِ مجتمعِنا، وأبنائِها البررةِ، رامي وديانا، بحزنِ بلدِنا المصابةِ بالكبدِ، بنفوسِ الأحبّةِ التي لا تستسلمُ للحزنِ المـُطلقِ، فهناكَ زهرتانِ عطرتانِ ساحرتانِ تركَهما لنا نبيل في حديقةِ الحياةِ المزدانةِ بسحرهما، نَغَم وميس، فنعمَ الرّبيعُ الزّاهي المنتظرُ بعدَ هذا الخريفِ الأصفرِ!
إياد الحاج
كفرياسيف
09/11/2019
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات