حبيبٌ فرعٌ شامخٌ في شجرةِ الزّيتونِ العريقةِ
حبيبٌ فرعٌ شامخٌ في شجرةِ الزّيتونِ العريقةِ
يُلوّحُ لنا الفرعُ الرّابعُ في شجرة "أبو رجا"، فرحات أبو عقل، مُعلنًا: أنا هنا. رحلَ الحبيبُ رجا، فتبعُهُ الحبيبُ خليلٌ، وأعقبَهُ الحبيبُ سليمٌ، فلم يُطِقِ الحبيبُ حبيبٌ البقاءَ بينَنا بدون السّاقِ العالي، "أبو رجا"، وبدونِ الإخوةِ، الفروعِ الشّامخةِ، فتبعَهم وهو يحلُّ لنا اللّغزَ الذي استعصى علينا حلُّهُ: ما سرُّ القلقِ الدّائمِ الباحثِ عنْ شيءٍ مفقودٍ، أعذرْنا يا حبيبُ على بساطةِ تفكيرِنا، وانشغالِنا عن سؤالِكَ المرّةَ تلوَ المرةِ: عمَّ تبحثُ يا حبيبُ؟!
كانَ أبو رجا يترصّدُنا على ساحة المراح في العام 1990، ونحنُ نقومُ بعملِنا المحلّيِّ الانتخابيِّ، ويسألُنا: طمئنوني، كيف الوضع؟ ويرفعُ عكّازَهُ، ويهزُّها، ويهتزُّ شروالُه الأسودُ وشارباهُ اللّذانِ يصارعانِ اللّونِ الأبيضِ، دون أن يرمشَ لَهُ جفنٌ، ويقولُ لنا: "لا تخافوا"! أبو رجا شيخُ شبابِنا، يشحنُنا بقوّةٍ تصنعُ الانتصارَ.
وحينَ كانَ الماردُ رجا ممدّدًا، يصارعُ ذلكَ المرضَ الخبيثَ، ونحن نستعدُّ لانتخابات 1993 المحليّةِ، حيث كشّرتِ السّلطةُ عن أنيابِها، وألقتْ بثقلِها، "حزبًا وحكومةً"، كما قالَ موشي شاحل، وزيرُ الشّرطةِ في حكومةِ رابين، في حينه، حين حضر داعمًا للمرشّح المنافس لنا، مُظهرًا كلّ مظاهرِ القوّةِ الممكنةِ، أمامَ النّاخبينَ الكفارسةِ، استدعى الباقي فينا رجا، رفيقَنا، طيّبَ الذّكرِ نمر مرقس، وقال له لن يُسقطَ مرشّحَ السّلطةِ سواكَ، أوصيكَ أنْ تقبلَ ترشيحي لكَ؛ كانَ رجا يقاومُ المرضَ، ويواجهُ السّلطةَ بكبرياءٍ وعزةٍ وإباءٍ، فكيفَ يموتُ مَنْ عاشَ عزيزًا كريمًا أبيًّا؟!
إلى هذه الشّجرة تنتمي أنتَ يا حبيبُ، حينَ يذوي فيها غصنٌ، تَخضرُّ فيها أغصانٌ، فها هم أبناءُ رجا وخليلٍ وسليمٍ، وأبناؤكَ أنتَ، يصبغونَ الشّجرةَ بلونِ الحياةِ المكافحةِ، يعجزُ الزّمنُ عن أيقافِ نموِّها، رغمَ الجفافِ الذي أنزلَهُ بعديدِ الأغصانِ، فتلكَ قصّتُنا في هذه البلادِ، صمودٌ في الأرضِ على مدى الزّمنِ.
تمشي الهُوينا كلَّ صبحٍ، ويداكَ معقودتانِ خلفَ ظهرِكَ، تنظرُ إلى النّاسِ بابتسامٍ، وتجولُ بناظريكَ على البيوتِ والأشجارِ وتُصغي للأصواتِ وما تبقّى من تغريدِ العصافيرِ، ويَسرحُ خاطرُكَ بما يحيطُ بِكَ، تتأمّلُ هذا الواقعَ المتحوّلَ من حولِكَ؛ كم مرّةٍ ودّعتَنا يا حبيبُ قبلَ أن تغادرَنا، كم صباحٍ سرتَ نحوَنا، وكم مساءٍ استدعيتَنا على عجلٍ إليكَ لتملأَ عينيكَ بصورةِ الأحبّةِ!!
في هذا الزّمنِ المتغيّرِ من حولِنا، يعزُّ أمثالُكَ يا حبيبُ، فأنتَ مِنْ عطرِ زمنٍ آخرَ، نتمسّكُ ببعضِ شذاهُ، بالكثيرِ من هواهُ، وبالثّابتِ من سنا هداهُ؛ زمنٌ لا ينتهي بموتِ أصحابِهِ، فالأفكارُ والقيمُ والأخلاقُ لا تموتُ كما تموتُ الأجسادُ، بلْ هي تبثُّ الرّوحَ في الأجسادِ الجديدةِ، كما تجدّدُ شجرةُ الزّيتونِ نفسَها، فتبقى شابّةً مهما شاخَ الزّمنُ!
كم يعزُّ علينا أنْ تتركَنا يا حبيبُ، رغمَ انسحابِكَ الهادئِ العزيزِ الرّصينِ، كم يعزُّ علينا؛ ولكنّكَ باقٍ فينا فرعًا شامخًا، من زيتونةٍ عريقةٍ، يموتُ فيها فرعٌ، فتلدُ فروعًا، فتبقى دائمةَ الخُضرةِ، والغلالِ، والظّلال، والجمالِ، هي من معالمِ بلادِنا، كالوديانِ والجبالِ، وهي رمزُ بقائِنا الكريمِ في أرضِ الآباءِ والأجدادِ.
إياد الحاج
كفرياسيف
18/7/2022
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات