حفنةٌ من نور

بقلم: سهير نقولا شحادة

عجزتْ في البداية عن فتح عينَيْها الخضراوَيْنِ، فأشّعةُ الشّمس بكلّ حنانها ودفئِها بسطت سيادتها على وجهها الصّغير المُصوَّب نحو السّماء، وَتماهى إليها بأنّ تلك الحرارة عقدت العزم على أن تبُثَّ الطّمأنينة في جسدها البارد المفروش على الرّمال...حيث استلقت هناك منذ البارحة في تلك البقعة القريبة من الشّاطئ.

اختار جسدها أن يبقى متسمِّرًا في مكانه الرّمليّ، وأتاح لروحها لتطلق العنان في رحاب الكون الشّاسع، فأحسّت بأنّ الأمواج المتلاطمة تسمع هدير أنينها المكتوم، تحثّها على العودة لتغوص في أعماق البحر الواسع.

ها هو من جديد، كما في اللّيلة الماضية، يفتح لها ذراعيه الدّافئتَيْنِ وصدره الرّحب يقول لها: "أنا سأكون دائمًا هنا في انتظارك يا صغيرتي... تعالي ولا تقاومي... اتركي ذاتك تنام في حضني البارد، فهو قادر على اطفاء لهيب أفكارك... ففي أعماقي يهدأ الصّخب وتتلاشى الفوضى...عندي تجدين السّكينة".

نعم، سيمسك البحر بِيدها ويطمئنُها ويربت على كتفيها، كطفلة تائهةٍ خائفةٍ... راحت نور تتساءل في نفسها: " مَن سواه يعرفني؟!".

لا أحد غيره؛ إنّه البحر القويّ الجبّار العاتي، يحتضن الغريب والقريب.

هو البحر الكاتم للأسرار والمُدرِك لمكنونات النّفس...قلبه يعانق كلّ دمعة وحسرة، كلّ ضحكة وقهقهة...يشتاق للفرح العابث، للغضب السّاكن والهدوء المضطرب...

- "نور...نور..."

سمعت صوتًا يدنو منها. التفتت إلى الوراء بعد ان انتفض جسدها انتفاضة هادئة، وراحت عيناها تبحثان عن ذلك الصّوت...إنّها تعرفه حقّ المعرفة... لكن عقلها مشوّش...إنّها لا تذكر شيئًا، فقط مجرّد صور خاطفة تلوح في ذاكرتها: أغاني صاخبة، ضحك قهقهات... أصناف من الكحول وملامح لوجوه تعرفها وأخرى تجهلها...

"عرفتُ بأنّني سأجدكِ هنا يا صغيرتي...هيّا، تعالي معي"

" ما بكِ يا جدّتي؟ لا تقلقي، أنا بخير..." قالت نور وهي لا تزال تفرك عينيها بيديها الصّغيرتَيْنِ.

"في الحقيقة لا أعلم إن كنت على ما يرام، لقد قلقت عليك حين لم أجدك في فراشك هذا الصّباح!"

أجابتها الجدّة بصوت رؤوم. ثمّ أردفت تقول:

" إنّ والديك على وشك الوصول إلى المنزل، لقد وصلا المطار قبل ساعتين تقريبًا...هيّا بنا يا صغيرتي، هيّا نستعدّ لاستقبالهما..."

" لا يهمّني وصولهما أبدًا... فحياتهما عبارة عن حقائب سفر تتنقّل بين المشاريع وأروقة الشّركات...." قالت نور بلهجة طلقة.

"لا تقولي هذا الكلام يا ابنتي..." أجابتها الجدّة بصوت لائم.

سارت نور برفقة جدّتها تجاه المنزل الفخم الّذي تقطن فيه مع عائلتها، وهو يبعد عن البحر مسافة نصف ساعةٍ سيرًا على الأقدام.

كانت الخطوات تسير بثقل على الرّمال، ولم تكفّ الجدّة حينها عن الحديث عن محبّة والدَيْها تجاهها والتّضحية الّتي يبذلانها في سبيل توفير رغد العيش وحياة الرّفاهيّة لها.

لم تكترث نور لكلام جدّتها، رغم إنّ الأخيرة استمرّت جاهدةً في تعليل غيابهما المستمرّ. أوصدت نور أذنَيْها وقلبها جيّدًا رافضة قبول أيّ حجج أو تبريرات.

راحت تخبر نفسها وتُؤَكّد لجدَّتِها مجدّدًا بأنّه لن يتمكّن أحد من زعزعة موقفها منهما، فهي محقّة في هذا الأمر...كيف لا؟ وهما لا يتكلّفان حتّى السّؤال عنها وعن أحوالِها إلّا في بعض المواقف والمناسبات؟!

هل يدركانِ معنى الأبوّة والأمومة!! بالطّبع لا...صحيح أنّها بلغت الثّامنة عشر من عمرها، لكنّها تفتقر لوجودهما في حياتها منذ زمن طويل...وهي الآن في أمسّ الحاجةِ إليهِما. نعم، تحتاجهما بشدّة، وترغب في البوح عن مخاوفها

وأمنياتها لهما. كم تشتاق لحدوث نقاش محتدمٍ يدور بينهم أو لصراع يهيج، يثور، ثمّ يخبو بعد أن تلقي بنفسها في حضنَيْهِما!! وكم تتمنّى أن تنشغل معهما في الحديث حتّى في توافه الأمور دون عذر أو مبرّر للغياب المستديم!!

استقبلت نور والدَيها ببرود تام، ورغم إغداقها بالهدايا من ملابس وعطور وساعة سويسريّة ثمينة، إلّا أنّها رشقتهما بنظرة لا مبالية، وقلب منسحق غاضب يروم الحبّ والحنان...

"ما بكِ يا نور؟ ألم تعجبك السّاعة؟ أتعلمين ما قيمتها؟" قال أبوها وإمارات اللّوم لاحت في محيّاه. وحينَ لم يأتِهِ جواب منها، أردف يقول بلهجةِ تفوح منها رائحة الخذلان: " لو تعلمين أيّتها الفتاة المدلّلة ما نفعله من أجلك ...."

"يكفي... هذا يكفي...لا أريد منكما شيئًا، لا أريد عطورك وساعتك السّخيفة..."قاطعته نور وهي تصرخ في وجهه.

لم تتورّع نور في التّحديق في وجهه الغاضب، ولم يهمّها أنّه أطال التّحديق بها وبوجهها الثّائر، كأنّه بركان يستشيط غضبًا يهدّد ويتوعّد بمصيرٍ مؤلمٍ...بل أنّها تفرّست فيه لتعلن انطلاق الشّرارة الأولى واندلاع الثّورة.

"كيف تحدّثين والدك بهذه الطّريقة؟! ماذا أصابك؟ لم نعهدك هكذا!!" جاءها صوت أمّها الغائبة عن حياتها. وراحت تطلق كلامًا على عواهنه بعدما احتدم الصّراع بين الثّلاثةِ. أمّا نور فلم تهدأ، بل بلغ الغضب بها أنّها راحت تدمدم بفظاظةٍ كرعدٍ شرسٍ لا يرأف ولا يرحم...

" لا أريد سماع تفاهاتك بشأن عملك المهمّ، ولا عن مستقبلي الواعد وحياتي الرّغيدة البائسة...أنتَ فقدتَ طريقك إليَّ! هل تفهم؟

أخبراني...ماذا تعرفان عنّي وعن حياتي؟ لا شيء..."، ثمّ صرخت في وجهَيْهِما قائلةً: "أنا مجرّد فتاة تتعاطى ما شتّى وطاب من المسكّنات، لكنّها تعتلي بساط الغِنى والشّهرة وصوري الجميلة تملأ شاشات الأصدقاء والمعارف... وتُظهِر الكمَّ الهائل من الرّفاهيّة والسّعادة الّتي أعيشها، كأنّني اعتليت العالم بأسره... "

راحت تصفّق وتقهقه بحرقة، وضاعفت تصفيقها لدرجة أنّها شعرت ببلوغ ألمٍ عهدته من قبل.

"برافو، أحسنتما عملًا.... لقد جلبتما إلى العالم فتاة تشقى في عيشها الرّغيد مع أبوَيْنِ يقطنان في جوف طائرة لا تكلّ ولا تملّ...وأنا أعيش في عوالم فارغة"

ساد صمت غريب قاتل في المكان... حدث كلّ هذا أمام الجدّة الّتي آثرت السّكوت في تلك اللّحظات الأبديّة...وتجمّدت الوجوه العابسة المتجهّمة، وشردت العيون كأنّها تخشى اللّقاء.

اختارت نور اللّجوء إلى البحر مجدّدًا، فهوَ من يصيخ السّمع إليها دون قيدٍ أو شرطٍ، فاعتكفت عند شاطئهِ تنتظر وصول صوت يهدّئ من روعها، تنتظر البحر ليقول لها:

" أنا هنا يا نور... لم أبرح مكاني... أدرك كم اعتلج الألم في صدرك واضطرب لكنّك أطلقت البارود الّذي لم يعد يطيق الاحتمال... أمكثي هنا بجواري عند أطراف أمواجي ريثما تمرّ العاصفة بهدوء..."

أطلقت نور تنهيدة، وراحت عيناها تتأمّلان حُبيبات الرّمال الدّافئة...وبعد هُنَيْهةٍ بلغها صوتٌ هادئ ينادي:

"نور...نور..."

التفت إلى الوراء، فتلاقت عيناها بعينَيْهِ الدّامعتين:

"تعالي يا ابنتي...لقد أدركت الآن طريقي إليكِ..."

مدّ أبوها يده وشدّها إليه بحنان لترتمي في حضنه الّذي غاب عنها سنين

وارتسمت علامات الطّمأنينة في ملامحها، وتركت كفّها يحمل حفنة رمال متوهِّجة تسطع نورًا ناعمًا صافيًا، تتساقط ذرّاتها بانسيابٍ من بين أصابعها الرّقيقة، إلّا أنّها حرصت على أن تُبقي منه قدر المستطاع في كفّها... كيف لا وهي ترى بتلك الحفنة، حفنة من نور!!

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم