د.حاتم خوري والتصوير الواقعي في لغته وصدق تعبيره من خلال كتابه جورة الذهب.
الدكتور حاتم عيد خوري والتصوير الواقعي في لغته وصدق تعبيره من خلال كتابه «جورة الذهب»
بقلم : الدكتور منير توما
كفرياسيف
لعلّ من أكثر السمات الجمالية اقترانًا بقصص وحكايات الدكتور حاتم خوري في كتابهِ» جورة الذهب» قدرتها على تكثيف اللحظات الشعورية ، وتمييزها بهالة صورية تتعالى عن الحدث العارض ، والموقف العابر ، وتمنحها قوة التجريد . من هنا كثيرًا ما تتحول وقائع اليومي ، المرتبطة بجغرافيا إنسانية بذاتها ، في زمنٍ ما ، إلى أفق للمماثلة بين الأحوال الإنسانية ورمزية المكان الحاضن . ومما يثير إعجابنا في أبطال القصص والحكايات عند الدكتور حاتم خوري في كتابهِ لا سيما في قصتي «هناك في جورة الذهب» ، و «حليمة» ، تلك النزعة الواقعية التي تجعلهم ، في حركاتهم وأقوالهم ، في عواطفهم وتفكيرهم ، في حياتهم الفردية وحياتهم الاجتماعية ، أبناء وبَنات المعاناة الإنسانية في غير تكلّف ولا تصنّع . وقد استطاع الدكتور حاتم أن يصوِّر شخصيات قصصه وحكاياتهِ تصويرًا دقيقًا ، فقد التقط جميع حركاتهم وسكناتهم ، وقدّمهم لنا وكأننا نراهم ونسمعهم كما هم ، فيجمع بذلك من الكليّات والجزيئات ما لا يجتمع إلّا عند مَن نراه يعالج بموضوعاتهِ الواقعية عواطف إنسانية شاملة ، كحب الوطن ، وتعلّق الإنسان ببلدهِ وتقديسه له ، ونفوره من الظلم وتورته ورفضه الإغراءات للتنازل عن قناعاتهِ المبدئية تجاه التمسك بمسقط رأسه وموطنه الأصلي كما يتجلّى ذلك بشفافية بالغة مع ما حدث من صراعٍ نفسي واجتماعي وعاطفي عند «خضر» بطل قصة «هناك في جورة الذهب» ؛ هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نلتقي ببطلة قصة «حليمة» التي تمثّل فيها حليمة الإنسان المعذّب المعاني الذي تعرّض لنوائب الدهر والقدر ، واضطرت الى اتخاذ قرارات انفطر لها فؤادها بالافتراق طوعًا عن بناتها التوائم في مرحلة طفولتهن المبكرة جدًا في ضوء ظروفها العصيبة القاهرة . وهكذا فإنه في قصة «حليمة» يمكن أن نستجلي من تخلّق القاص بقيمها ، هي لحظة جمالية شعورية عاطفية تبلور صيغة من تجلّي الوعي الإنساني الاجتماعي . إنها إرهاص بالوجود كما ينطوي عليه الوعي الكامن في أعماق الفرد . ويتضح في نص قصة «حليمة» أنّ هناك زاوية نظر واحدة يقترب فيها النص من الأشياء والعالم . وعلى الرغم مِن تسلسل الأحداث المنطقي والإنسيابي السلس في أسلوب السرد ، الذي يتمظهر في بعض المواضع في صورة راوٍ غائب وفي مواضع أخرى في صورة راوٍ حاضر مشارك ، فإنّ عنصر المصادفة يلعب دورًا بارزًا في تداخل الأحداث ، مع أننا نلمس في هذهِ القصة عنصر التشويق واللباقة في سوق القصة ، وأسلوب الكاتب الفني في ربط الأحداث بعضها ببعض . وفي تخريجها بعضها من بعض ، وفي نشر عوامل الإمتاع ، بحيث لا يجد القارئ في القصة ثقلًا ، ولا تطويلًا مملًا ، بل جوًّا حافلًا بالمفاجآت المثيرة ذات الوقع السار في نهاية المطاف بتعرّف ولقاء حليمة ببناتها .
وبعودتنا للحديث عن «خضر» في قصة «هناك في جورة الذهب» نجد أن هناك تقاطبًا في هذه القصة وذلك بين طرفين مركزيين يواجه أحدهما الآخر مواجهة تعارض واختلاف . وهذان الطرفان هما : الرجل المتعلم المتمسك بإنتمائهِ واملاكه في قريته ، والطرف الثاني هو الواقع . الرجل الرافض للإغراء القهري والصامد في حنينه لقريته كما تبرزه القصة هو الأماني المتوهجة ، والماضي الهارب بمسراتهِ وذكرياته الكبيرة والصغيرة . أما الواقع الذي تبرزه هذه القصة كذلك ، فهو الحاضر الرجولي ، والإصرار الذي يفوق التردّد في اتخاذ القرار ، وهواجس وضغوط الحياة بما آلت إليه ظروفه الأليمة ، والهموم المعيشية الكبيرة . والرجل الصامد الرافض للإغراء القهري حين يتخذ هذا الوضع ، وحين يتشرب هذه المعاني في السياق القصصي ، فإنّه يظهر في وضع أو حالة الإدهاش . بينما الواقع يظل على الدوام حاجزًا أو عائقًا تتحطم أو على الاقل ترتطم به الأحلام والرغبات المرجوة .
إنّ أحلام «خضر» هذه المرة لن تجدي ، بل إنه يكاد يجهز على ما فضل من أمل في نفس البطل . والحصيلة تشتت وتوزع وفراغ ، إنها ولا شك لوعة الإنسان بفعل ملامح اليأس والفقدان . ولكن تبقى روح التحدي في ختام القصة عند بطلها «خضر» وتظل محلقة في سماء التجريد ، وهي تسم «خضر» باعتناقه لمثل هذه التجربة ، فتجعله يقصرها على عالم الأفكار دون أن تجد تجسيدًا لها في عالم الواقع ، وهذا الأمر يشير إليه «خضر» في نهاية القصة حينما يقول : «بلى يا سيدي. أريد أن أتجذر في وطني هذا . ولكن جذوري هناك ... هناك في جورة الذهب» . ومن اللافت في كتاب «جورة الذهب» أنّ الدكتور حاتم خوري قد طرق أيضًا موضوعات متنوعة في قصص وحكايات أخرى لطيفة خفيفة الظل مثل «مسامير الركب» ، «تنورتهم وتنورتنا» ، «قاعد قعدة خوري» ، «خسر جوهرة وربح الجوهر» وغيرها . ويستوقفنا في هذه الحكايات نمط في الكتابة يتميز بسهولة التعبير ، وحلاوة التلوين ، ولطافة الوقع ، وصدق النيّة ، وسلامة الذوق ، وعمق الإحساس ، والإبداع الأصيل .
مما تقدّم ، نرى أن الدكتور حاتم خوري يتّسم في كتابهِ هذا ، كما عَوّدنا سابقًا في كتابه «ماسيات» ، بأنّه رجل الفكرة الثاقبة ، والفكاهة اللاذعة ، وهو ينتمي الى تلك الفئة الواعية المتحرّرة التي تسير في أجواء الإنطلاق ، وهو من روّاد الفكر
الحرّ ، والقول الحرّ والذي يتمتع بأسلوبٍ أدبي شائق ، يجمع في كتاباتهِ ما بين الدعابة الهادفة والساخرة أحيانًا ، والروح الساحرة .
وهكذا فأدب الدكتور حاتم عيد خوري هو أدب الشخصية والإلتزام ، والهدوء والرصانة ، واللمحة الباهرة . ولما كانت الصورة القصصيّة أو الحكائية تنطوي على كل هذا الثراء التعبيري لدى الدكتور حاتم ، فقد شكلّت آلية فريدة لتحقيق المتعة الذهنية وفتنة الحواس وتمرير الرسائل الفكرية والأخلاقية ، بالنحو الذي يكسب الصور القصصيّة بُعدًا إرشاديًا توجيهيًا ، سواء بالمعنى الحسي ، أو بالمغزى الجمالي الذي تروي فيه الصور الحكائية ظمأ القارئ الى المكوِّن الإنساني وقد جسّدته الرؤى البلاغية الناشئة حوله لغةً وفكرًا وأسلوبًا .
فللعزيز الدكتور الكريم حاتم عيد خوري خالص التحيات وأطيب التمنيات بدوام التوفيق وموفور الصحة والمزيد من الابداع والعطاء .
موقع الملتقى غير مسؤول عن المقالات المنشورة التي تعبر عن رأي كاتبها والموقع يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير .
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات