صباح بشير: التنوير الثقافي في “أقمار خضراء”
صباح بشير: التنوير الثقافي في “أقمار خضراء”
عن دار المتنبي للنشر والتوزيع (2021)، صدر كتاب “أقمار خضراء” وهو مجموعة من النصوص الأدبية التي نسجها الأديب الأستاذ فتحي فوراني، لتضم قراءة شيّقة في حياة ثلَّة من الأُدباء والمفكرين الفلسطينيين، الذين نقشوا أعمالهم على صفحات الزمن فأثّروا المشهد الثقافي المحلي بإنجازاتهم، التي ساهمت بإرساء دينامية ثقافية وتنويرية، شملت مختلف الميادين الإبداعية والثقافية، جاعلين من أرض الوطن قلبا نابضا للثقافة والحوار، ومن طيب الآداء برهانا ومن الإخلاص وإتقان العمل منهجا.
وبنسيج حريريّ الوصف واللغة، حيكت سطور الكتاب وخُطَّت بإلهام وتدفق، تمكّن أديبنا من بثّ عاطفته والتعبّير عنها للقارئ، مرافقا إياه برحلة طويلة امتدت عبر مئتين وست وتسعين صفحة من الحجم الكبير، ملقيا الضوء من خلالها على تلك النخبة ونورها الوضّاء وأثرها الجميل المثمر، الذي تركته وهي ترفع علم الثقافة خفّاقا شامخا، منتهجة سبيل العمل والعطاء، حاملة شعلة النضال منغرسة متجذرة في الأرض بكرامة.
أمّا لوحة الغلاف التي صمّمها الفنان نضال فوراني فتُبرِز البساطة والحيوية، نشاهد فيها بعض الوجوه البارزة أمام قمر مضيء، ينعكس نوره بانعكاس مرآويّ شفيف، وذلك من سطح الكتاب مباشرة إلى أعين الناظرين، وبعمق اللون الأخضر وتدرّجاته تشير الخلفية إلى الإيجابية والسلام، الأرض والطبيعة، الجمال والطاقة والثبات، وهو لون الحجر الكريم “الزمرّد”، المتشكل في الطبيعة عبر ملايين السنين.
يقدم لنا هذا اللون رسالة عميقة باندماجه مع الوجوه وتشكلاتها وانبعاث ضوء القمر في فضاء اللوحة، فتتجلَّى السطور التي نثرها الكاتب لتدلّ على رموزها وإيحاءاتها الإنسانية، أعمالها وإصداراتها وإنجازاتها.
استهلّ فوراني انطلاقته الشيّقة من مدينة حيفا، ثم باشر فتح الطرقات أمام مسيرته ليخترق فضاءات الوطن، متنقلا من مكان لآخر ومن قرية إلى مدينة، فتقاطعت دروبه وامتدت رحلته، من مدينة البشارة، إلى كفر ياسيف، إقرث، أم الفحم، مصمص، عرعرة، الطيبة، الطيرة، جلجولية، المغار، عيلبون، عبلين، فسوطة، جديدة المكر، دير الأسد، طمرة، عسفيا، ونحف. كما قسّم الأسماء إلى مجموعات لنلتقي في الباقة الأولى بشخصيات أدبية، تحت عنوان: “الشعراء والكتّاب” منهم: حنا أبو حنا، نبيه القاسم، أحمد دحبور، راشد حسين، ومحمد علي سعيد، وغيرهم.
والباقة الثانية كانت لشخصيات تربوية: رياض حسين اغبارية، مارون قعبور، جورجيت أواكيان، زهير الفاهوم وغيرهم.
أمّا الباقة الثالثة فحملت اسم “شخصيات ثقافية واجتماعية وسياسية” كان منها: توفيق طوبي، خليل عبود، جريس سعد خوري، الياس نجيب دلة، محمود خالد جبارين وغيرهم.
واعترف فوراني بوجود بعض الحدود المشتركة المتداخلة بينها، ممّا أدى إلى صعوبة الترسيم لتلك الحدود بشكل قاطع بين المجموعات.
وليست هذه الأقمار إلا بداية للعطاء الإبداعي المحليّ، فهنالك المزيد من الأقمار التي تولد كل يوم، بانتظار دورها لتنطلق في مسيرة العطاء والإبداع، تلك الأقمار التي تكمن في عمق الأرض الفلسطينية، تتأهب محتشدة لتتبوأ مكانتها المميزة، استعدادا للانخراط في مشهدنا الثقافي والإبداعي، لتطّل علينا حاملة راية الإبداع ومستقبل منير يتوقد نورا وبهاء.
والأديب فتحي فوراني كما عهدناه دائما، يطل علينا ليتحفنا بما كتب، مركّزا على قضايا المجتمع الثقافية، فيسردها علينا بلغته الإبداعية التعبيرية الأنيقة الرشيقة، وأسلوبه الرائع المشوّق العذب السلس، معتمدا بديع التصوير وصدق الوصف والبلاغة المتقنة، مرتبطا بالمكان مستلهما تجاربه الإنسانية الثريّة، موليا أهمية كبيرة للقرّاء، مشركا إياهم في وقع الحدث ومجرياته، جاذبا مؤثرا فيهم، مثيرا فضولهم وشغفهم، جاعلا من القراءة إبداعا شأنها شأن الكتابة، فالكاتب الفذّ هو النموذج المثمر بكتاباته وأعماله، وما يميز الأديب الحقيقي عن غيره من الأدباء هو قيمة ما يخطه وينشره وهو في أوج سموّه وارتقائه، وتشكيله للأثر الطيب في ذاكرة القرّاء، وحَضّه على حبّ الخير لغيره كما يحبه لنفسه، فمن أنجح الأعمال وأكثرها سموا ورفعة، تلك التي يمتدّ نفعها إلى الآخرين.
راق لي هذا الكتاب فالتهمت صفحاته دون ملل، فسطوره مشوّقة تلامس شغاف القلب وتشهد على ذائقة أدبية أصيلة وإحساس مرهف نبيل، وتعكس بعمق مدى ثقافة الأستاذ فتحي فوراني، سادن لغة الضاد ومحراب الكلمة النابضة المتدفقة، تلك التي يكتبها بصياغة لغوية حميمة، فتزخر بالبوح وتعبق بالأمل والقيم الإنسانية العليا.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات