قراءة في المجموعة الشعرية «دموع حارقة» للشاعر علي تيتي

 

بقلم : الدكتور منير توما

كفرياسيف

 

كان الأستاذ علي تيتي قد أهداني مشكورًا نسخة من مجموعته الشعرية «دموع حارقة» ، مُبديًا رغبته في استطلاع رأيي حول ما ورد من قصائد في الكتاب ، وبالتالي فإنّه تلبيةً لطلبهِ الغالي ، فقد قرأت المجموعة ، ووجدت في قصائدها نزعة انسانية ظاهرة تتضمن الوجدانيات والوطنيات ، والموضوعات الإنسانية والفكرية والاجتماعية كالرثاء مثلًا الذي يشغل حيزًا لافتًا في الكتاب .

ومن حيث أن الرثاء فن من فنون الشعر الغنائي ، يعبِّر فيه الشاعر عن حزنه وتفجعه لفقدان عزيز عليه ، وهو يتلوّن بألوان مختلفة تبعًا للطبيعة والمزاج والمواقف . فقد غلب على شاعرنا تسجيل الخصال الحميدة التي تمتع بها الفقيد في حياته ليكون هذا الرثاء تأبينًا . وفي القصائد هذه والتي غلُب فيها التأمل في حقيقة الموت والحياة كانت عزاءً من خلال الرثاء .

ويُلاحظ في الكتاب أنماط متنوعة من قصائد الرثاء كالتأبين والعزاء سواء كانت القصيدة تكريمًا لذكرى المرحوم أو إشارة بمناقب الفقيد عند الوفاة . ولقد طرق الشاعر علي تيتي باب الرثاء بايراد عدد من القصائد في رثاء العديد من أحبائهِ واعزائه في المجتمع بحكم معرفته لهم أو صلته بهم ، وقد وردت عدة أسماء لمرحومين قام شاعرنا برثائهم ومنهم الشاعر سميح القاسم حيث يقول تخليدًا لذكراه (ص 57) :

يا سميح وقد تقسّم العرب شطرهم

ومن بعدك ينتخب الشعراء عويلا

هل أصبح الوطن العزيز لأهلهِ

أم الشهادة والموت سبيلا

غيّبك الموت وكأنك بميعاد صدق

بمحمود وآب وللحرّ خليلا

لا سمح الله أن تكون بغير ذا

مكانك الفردوس وجنات النخيل

كنت مرفوع الهامةِ تمشي

وبكفّك حملتَ قصفة زيتون وكيلا

أنتَ الشّجاع النبيل الكريم

ببعد نظرك وحسن القول الوسيما .

وفي ذكرى الشاعر محمود درويش يقول (ص61) :

درويش .. أحمل نعشي

أسير في الطرّقات القديمة

بحري عميق

لونه أزرق

شباكي في الأعماق

تصطاد القروش

هل تدري؟؟

"وهذا البحر خلف السّور بحري"

هل تراني؟

لا أعمل المشاكل

حال الزّاهد .. أعمل بأفعالهم .

ونحن نرى في اقتباسَيْ الرثاء السابقيْن ان شاعرنا قد ذكر الراحليْن بعد موتها بخير ، والتأبين لغةً هو مدح الإنسان بعد موته ، وتعداد مآثر الميت ومناقبه والتغني بكريم خلاله ونبيل سجاياه كما لمسنا في رثاء الشاعرين الكبيرين سميح القاسم ومحمود درويش . ونجد في هذا النوع من الرثاء الصبر عمّا فقد الشاعر ، فالشعر في المثالين أعلاه فيهما عزاء باعتباره تأبينًا يتجَسّد بعرض أفكار الشاعر المسترسل في رثائهِ وارسال الحكم والدعوة الى التصبّر والتأسي .

ونرِد هذه المعاني بصدقية شاعرية شبيهة في رثاء شاعرنا لابن بلدتهِ المرحوم الشاعر حنا ابراهيم الياس ، مصوِّرًا للعاطفة (emotion) مما يهزّ السامع الذي يرى في مثل هذا الشعر تعبيرًا صادقًا عن الشعور الذي نظر شاعرنا يطابق الحقيقة، ويَعْظُم بالرؤى الفكرية التي تغذي الروح والقلب . ونلمس كل ذلك في قول الأستاذ علي تيتي (ص17) :

يا أبا ابراهيمَ .. فرّق الموتُ شملَنا

يا رسولَ السّلامِ الى الجنّةِ مكرّم

ليس لنا سوى الصبّرِ

في بلدةٍ انجبتْ لشعبها القمم

نم قريرَ العين يا رفيقي

فالسلام لك

ولغير الله لا نستسلم .

وتتنوّع الأغراض الشعرية في قصائد هذه المجموعة ، فنلتقي بقصيدة "سنة الحياة" (ص71) التي يعيش القارئ بكلماتها أجواء الشعر الرومنطيقي (romantic poetry) مشوبًا وممتزجًا بنفحة صوفية الى حدٍ ما ، فرومنطيقيّة علي تيتي في هذهِ القصيدة هي ذات روح جديدة ، إنّها روح شعورية ، مصنوعة قبل كلّ شيء من العاطفة التي تموج في سماء الحرية والطبيعة التي تقود تلقائيًا الى الفردية التي يتبناها ويجسّدها شاعرنا هنا ، بل يجسّد ما في نفسه وفقًا لمزاجه الفني وطبيعة ذاتهِ ، فهو يتناول عواطفه وانفعالاتهِ الحميمية التوّاقة الى صفاء الجمال وعذوبة المحبة وهناءة السلام والسعادة .

والنص الشعري التالي من القصيدة تشير الى هذه الدلالات :

سأفكّرُ يومًا أن اختلفَ

مع سنّة الحياة

أن أكون زهرة دون أشواك

ترويها الرّمال

سأفكّرُ يومًا أن أكون فراشة

أحلّق في السماء

أتشرنق من العدم

أنبعث من الرّماد

سأفكّر يومًا أن اكون نحلة

أهاجر بطردي

أعشق الأفنان

أسكن تفسّخاتِ الصخور

وتجوّفات أشجار رومية

في موسم الشتاء

اطارد ملكتي

أعانقها في الفضاء

عيد الأعياد

أفكّرُ أن يعمَّ السلام يومًا

أقتلع الأسلاك

أترفع بأوسمة الأبطال

أبدأ الحياة .. حيث لا تنتهي النهايات .

إنَّ الفراشة الوارد ذكرها في هذه القصيدة ترمز في هذا السياق الشعري الرومنطيقي الى النفس (the soul) والى الحريّة (freedom) والى الانجذاب اللاواعي الى النور

(unconscious attraction toward light) والى الولادة الجديدة (rebirth) ، والى الحب ، كذلك ترمز هنا الى الطيش والعبث (frivolity) ، والى الفرح والابتهاج، والى الربيع والى القيامة والبعث (resurrection) كما أنها ترمز إلى الحياة الأبدية (eternal life) .

أما النحلة في هذهِ القصيدة فترمز إلى النشاط الخلّاق المبدع (creative activity) ، والى الراحة ، والى مكان التجدّد (place of regeneration) ، والى الولادة والرفاهية .

ويكرّس شاعرنا جانبًا من قصائدهِ الى تفشي العنف المستشري في المجتمع العربي في البلاد معبّرًا عن حزنهِ وحسرته على ما يجري من اراقة الدماء ، ويقدّم في أولى قصائد مجموعتهِ الشعرية قصيدة عن قريته في هذا الشأن تحت عنوان «أبكيك يا بعنة» يقولها في مطلعها (ص7) :

انشطرَ اليراعُ والحبرُ يحتضرُ

لطفلٍ يصرخُ : كفى قتلْ

سالت دماءُ وارتوت أرضٌ

في أمٍ ثاكل أصابها شللْ

لا أدري الى أين أذهبُ

ببحرِ دم وثيابه بللْ

لم أعدْ في بيتي آمنًا .

وبهذا نكتفي بما قدمناه من تعقيب موجز على هذه المجموعة الشعرية التي ينزع فيها شاعرنا نزعة انسانية فكرية فيها كثير من الوجدان ، والبُعد الملحوظ عن التعمُّق حيث اصطبغت في اكثر القصائد بصبغة الجدّة في الموضوعات ، وصراحة اللهجة في الأداء وهو في أوج الحزن والألم بنفس شفّافة ، يستولي عليها الألم بوضوح لما لها من صدق الإحساس وشدّته . إنّه ينطلق في قلمه متدفقًا في غير تأنقٍ أو تنميقٍ مُفرِط ، ونرى في أسلوبهِ السهولة والطبعيّة والإبتعاد عن التعمُّل والتصَنُّع .

وخلاصة القول إنّ الأستاذ الشاعر علي تيتي هو شاعر تنساب العاطفة من نفسه انسيابًا يُحييهِ الأمل ويغلفُهُ الألم ، فله منّا اطيب التمنيات بموفور الصحة ودوام التوفيق وبالمزيد من الإبداع و

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم