قراءة في كتاب «المسيحيون في الشرق الأوسط» للأرشمندريت د. أغابيوس أبو سعدى
قراءة في كتاب «المسيحيون في الشرق الأوسط» للأرشمندريت د. أغابيوس أبو سعدى
بقلم : الدكتور منير توما
كفرياسيف
صدر هذا العام 2022 كتاب «المسيحيون في الشرق الأوسط» من تأليف الأرشمندريت الدكتور أغابيوس أبو سعدى ، وفيهِ يتعرّض الى الوجود المسيحي في الشرق الأوسط ديموغرافيًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا حيث تطرّق في دراسته هذهِ الى أوضاع المسيحيين في بلدان العالم العربي وتركيا وايران رابطًا التاريخ بالحاضر ، فكان موضوعيًا الى حدٍ كبير معتمدًا على العديد من المصادر لاسيما الإنجليزية ، وبالتالي فإنّ الأرشمندريت أبو سعدى قد غطّى ببراعة ومهارة الباحث أمورًا شتى في مجال ما أسماه في تقديمهِ ومقدمته للكتاب بإعادة اكتشاف المسيحيين في الشرق الأوسط وازمة المسيحيين في هذهِ المنطقة .
لقد قسّم المؤلف كتابه الى أربعة أقسام ، وكلّ قسم الى فصول فرعية ، ففي القسم الأول يتناول نقد البراديغم المهيمن في مقاربة أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط، فيبدأ في تقديم الكتاب ويذكر الكاتب أنّهُ «في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين ، انتقل الإهتمام بالأقليات الدينيّة في الشرق الأوسط الى الصدارة ، في ضوء عامل دولي هو أحداث 11 أيلول عام 2011 ، وما تلاه من انطلاق الحرب على الإرهاب ، والتدخُّل الغربي في عراق متعدِّد الأَديان عام 2003، والذي كشف عن غنى التنوّع الديني في المنطقة ، وأثّر سلبًا على وزن المسيحيين الديموغرافي في ضوء موجة جديدة وواسعة من الهجرة والنزوح ، وسلسلة من التطهير العرقي ، والإبادة الجماعية للأقليات الدينيّة في سوريا والعراق خلال السنوات التالية ، لاسيما بعد أن جاء الربيع الثاني مُفْتَتحًا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ؛ «ليفضح تخلخل ميزان العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في العديد من دول المنطقة ، مثل مصر ، وسوريا ، ولبنان والعراق.» ويؤكِّد الكاتب على أهمية المسيحيين في الشرق الأوسط نظرًا للمستويات الثقافية والتعليمية العالية لديهم ، وما لديهم من المؤسسات كالمدارس والجامعات ، والمستشفيات ، ودور الأيتام ، ودور المسنين ، والجمعيات الخيرية ، كما أنّ المسيحيين الشرقيين يُعَدَّون بمثابة جسر بين الشرق والغرب .
ويأتي المؤلِّف الى «أنَّ انخفاض عدد المسيحيين في الشرق الأوسط ليس حديثًا ، فهو مستمر منذ عقود . فقد عاش العديد من هذه المجتمعات تاريخًا طويلًا من الاضطهاد والتهجير ، لاسيما في العراق ، إذ كان التراجع فيه دراماتيكيًا» . ويشير الأرشمندريت أبو سعدى الى دور الغزو الاميركي للعراق عام 2003 ، والى العنف الطائفي ، وظهور داعش . ويخبرنا الكاتب أنَّ عدد المسيحيين في العراق كان ما بين 1.5-1.8 مليون نسمة ، أما الآن فيتراوح بين 250-300 ألف .
ويرى الكاتب في مقدمة الكتاب أنَّ الديموقراطية هي الطريق الذي يمكِّن مسيحيي العالم العربي في تأكيد أنفسهم على أساس حياة وطنية تفاعلية . وينتقل الكاتب في فصل تمهيدي من الكتاب الى قضية تراجع الوجود المسيحي في الشرق الأوسط معلًلا ذلك أن الإنهيار الأخير للنظام السياسي في بعض دول الشرق الأوسط قد دفع الناس من جميع الأوساط والفئات الى المغادرة والهجرة . كذلك يشير المؤلف الى الحقيقة بأنّ الكثير من المسيحيين قد تمكنّوا من الوصول الى التعليم ، والفرص الاقتصادية، والشبكات التي سهلّت مغادرة بلدانهم والمنطقة . ويتحدث الارشمندريت أبو سعدى أيضًا الى الواقع في أنَّ «العديد من البلدان في جميع أنحاء المنطقة ، تميل فيها القوانين والممارسات السياسية الى تقويض حقوق الإنسان الأساسية والشعور بالمساواة» ، وبالتالي فإنّ المسيحيين «لا يرغبون في الحصول على وضع أقلية محميّة ، لكنهم يفضلون معاملتهم بمساواة تامة» .
ومن العوامل الأُخرى التي تدفع المسيحيين الى مغادرة المنطقة ، «الافتقار الى الوظائف والنمو الاقتصادي الشامل ؛ نظرًا لأنّ للعديد من المسيحيين فرصًا اقتصادية أكبر» على حد تعبير المؤلف الذي يرى أنّه يمكن للمسيحيين السفر الى اميركا وأوروبا بسهولة أكبر وذلك لايجاد فرص عمل جديدة ووظائف مناسبة .
ويضيف الكاتب أنّ هناك ما يؤثر أيضًا على المسيحيين في الشرق الأوسط وهو الانقسام وعدم كفاية التنسيق بين المسيحيين ويعني بذلك الانقسام الداخلي بين الكنائس ، وعدم كفاية التنسيق بين الكنائس المختلفة حول قضايا محدّدة تؤثر على مجتمعاتهم . ويعتقد الارشمندريت أبو سعدى في هذه النقطة أنه اذا لم تتجاوز الطوائف المسيحية خلافاتها وتتعاون مع بعضها ، فإنَّ المسيحية ستبقى معرضة لخطر كبير لأنه نابع من الداخل .
ويبيّن الكاتب في دراستهِ الثريّة هذهِ في الفصل الأول من القسم الأول ، أنَّ المسيحيين قد شكلّوا أقليات مهمة في معظم بلدان العالم العربي والمنطقة الشرق أوسطية ، فهناك الكنائس الارثوذكسية الشرقية ، وهي بارزة خصوصًا في سوريا ، وفلسطين ، والأردن ، وكنيسة الموارنة في لبنان ، وكنيسة الأقباط في مصر ، بالإضافة الى المجتمعات الأصغر من كاثوليكية ، وأشورية وبروتستانتية المنتشرة في جميع بلاد الشام ، والعراق ، وشمال أفريقيا . ويقول المؤلف أنّ الدراسات التاريخية المعاصرة تسعى الى وضع التجربة المسيحية العربيّة بجانب الإسلام ، باعتبارها جانبًا مركزيًا من تاريخ المنطقة ، وتأكيد طابعها العربي والشرق أوسطي ، وليس الغربي والامبريالي ، كما يدّعى الكثيرون . ونعتقد هنا أنّ الارشمندريت أبو سعدى قد أصاب الهدف في قوله هذا ، فللمسيحيين العرب كما يشهد التاريخ العربي أيادٍ بيضاء على مدار تاريخ الأمة العربية عبر مختلف العهود والعصور . ويشير الكاتب الى أنَّ المؤلفين قد احتفلوا بتسامح النظام العثماني ، ومع أنه «جرى التأكيد على التفوق السياسي وشرعية الإسلام ، لكن الأقليات اليهودية والمسيحية تمكّنت من الاحتفاظ بعلامات هويتها الرئيسية ، ولم يتم إرغامها على الذوبان في دين الأغلبية . واذا كان قانون الذِّمي أي أهل الذمِّة فيهِ تمييز ، فإنّهُ يدمج أيضًا الأقليات في المدينة ، في مرتبة أدنى ، لكن على أساس القيم المشتركة ، بما في ذلك الدينية . واليوم ، ومع طائفية الأقليات المسيحية ، والابتعاد أكثر فأكثر عن رجال دينهم ونسيجهم المجتمعي ---- يجد مسيحيو الشرق أنفسهم متغربين أكثر فأكثر عن مجتمعاتهم الأصلية» .
ويصل الكاتب الى القسم الثاني لتحليل أوضاع المسيحيين الراهنة في الشرق الأوسط ، ففي الفصل الأوّل من هذا القسم يتناول أولًا حال الأقباط في مصر حيث أنَّ المجتمع القبطي لم يكن مهاجرًا ، ويعتبر الأقباط أنفسهم مصريين أصليين ، وجزءًا من العالم العربي . وفي الوقت نفسه ، يقول الكاتب ، يربطهم الجانب الديني لهويتهم بالعالم الغربي ، ويعمل كعامل تقسيم داخل المجتمع المصري . وينوّه المؤلف أنَّ الدستور المصري يحمي الحرية الدينية المسيحية القبطية رسميًا ؛ لأنها احدى الديانات الابراهيمية الثلاث المعترف بها . ورغم كون ذلك مؤسسًا دستوريًا فإنّ الكاتب يورد حقيقة أنّ الوضع على الارض مختلف مما هو مرغوب فيه ، إذ يواجه الأقباط يوميًا التمييز الديني ، وغالبًا ما يكونون ضحايا للهجمات ، إمّا من متطرفين دينيين مصريين ، أو من عناصر ارهابية اجنبية ، مثل مقاتلي الدولة الاسلامية (داعش) .
ومما ورد أيضًا في كتاب الارشمندريت أبو سعدى قوله أنَّ : «الصداقة والعلاقة المعلنة بين البابا القبطي تواضروس الثاني والرئيس السيسي مستمرة منذ إبعاد جماعة الإخوان المسلمين» وعلى الرغم من اعتبار كون هذه العلاقة مفيدة للاقباط في مسألة التمييز الاجتماعي والديني ، إلّا أنّها أثارت تساؤلات معينة حول موضوع قيادة الأقباط المصريين سياسيًا ، وبعبارة أخرى فإنَّ المجتمع المدني القبطي يتطلّع لمقاربة حياتية أكثر علمانية لتحقيق الحقوق القبطية على أساس قاعدة انتخابية سياسية وليست دينية .
ويتطرق الكاتب الى المسيحيين في اسرائيل وفلسطين ، ويذكر أنّ عددهم في المكانين يبلغ 4-3 بالمئة من إجمالي عدد سكانهما . ومن المعلوم أنّ الكنيسة الارثوذكسية وخاصةً (الارثوذكس اليونان) تسيطر على المجتمع المسيحي ، إلّا أنّه متنوَّع ومتعدِّد يتكون من الأرمن المسيحيين الإثيوبيين ، الاقباط ، والسريان الارثوذكس ، ومن الكنائس الكاثوليكية : مثل : اللاتين ، والسريان والملكيين ، والموارنة . ويشير الكاتب إلى أن المجتمع المسيحي في اسرائيل وفي فلسطين (أي في الضفة الغربية وقطاع غزة) يتطلب دراسة منفصلة خاصة اجتماعيًا وسياسيًا . فغالبية المسيحيين الفلسطينيين في الضفة الغربية (98%) و 2% في قطاع غزة . ويخبرنا المؤلف أنَّ «مركز الأبحاث» أجرى استطلاعًا للرأي العام بين المسيحيين الفلسطينيين ، يبيّن أنّ عددًا كبيرًا منهم يرغبون في الهجرة الى الغرب في المقام الأوّل ، بسبب عدم الاستقرار المالي ، وليس بسبب الاضطهاد بسبب ديانتهم . ومن جهة أخرى ، يذكر الكاتب أنّه : «كجميع المسيحيين في المنطقة ، فإنَّ الخوف من اشعال التوتر الطائفي يمنعهم من الازدهار الحقيقي» .
أما في اسرائيل ، فإنه وفقًا لمكتب الإحصاء المركزي الاسرائيلي (CBS) كما ورد في الكتاب هنا ، يشكّل المسيحيون في اسرائيل 2% من عدد السكان ، و 7.2% من السكان العرب في البلاد حيث يتركز معظم المسيحيين في الشمال (7-6%) ، بينما معظم المسيحيين من غير العرب يتواجدون غالبًا في تل ابيب ، والمناطق الوسطى ، وأيضًا في الشمال . ويذكر الكاتب في هذا السياق أنّه «من المثير للاهتمام أنّ المسيحيين والمسلمين (معظمهم من الفلسطينيين) يتشاركون وجهات نظر مشتركة حول مختلف القضايا المتعلقة بالصراع الاسرائيلي-الفلسطيني» وبالتحديد فإنّه لدى المسيحيين والمسلمين في اسرائيل وجهات نظر سياسية متماثلة في العديد من القضايا الأخرى أيضًا وفقًا لما جاء في الكتاب . وينوه الكاتب أنّ دولة اسرائيل قد وضعت العديد من القوانين لضمان الحرية الدينية مع أنّ الاقلية المسيحية تتعرض لممارسات الكراهية من جانب فئات معينة في المجتمع اليهودي باسرائيل .
وعن المجتمع المسيحي في لبنان ، ورد في الكتاب أن «مفهوم الاضطهاد الديني للإيمان المسيحي ، ليس هو ما دفع السكان المسيحيين الى الهرب ، بل الصعوبات المالية والفساد السياسي هما اللذان يدفعان الطبقة الوسطى اللبنانية ، ومعظمها من المسيحيين ، الى البحث عن نوعية حياة أفضل في الغرب . في المقابل ، وبالنظر الى الدور الهام للمجتمع المسيحي في إنشاء الدولة اللبنانية الحديثة ، وإعادة بنائها ، فإنّ الفراغ الذي ينمو ببطء ، بسبب غياب المسيحيين ، يمكن أن يعرِّض ازدهار لبنان للخطر » . وكما هو معروف فإنّ أساس نظام تقاسم السلطة في لبنان هو طائفي ، لذلك يبذل كل من النظام السياسي والشعب جهدًا دائمًا لنزع الطائفية عن التوترات السياسية لاسيما بين المسيحيين والمسلمين وعدم العودة الى الحرب الأهلية التي حدثت عام 1975 ودامت 16 عامًا . وبحديثهِ عن المجتمعات المسيحية في تركيا ، فإنّ الكاتب يخبرنا أنّ عدد المسيحيين في تركيا حوالي مئة ألف ، يتألفون من : الأرمن الارثوذكس ، والسريان الارثوذكس ، والكلدان الكاثوليك ، والروم الارثوذكس ، وكذلك عدد من الطائفية الآرامية المسيحية الذين تدفقوا لاجئين بسبب الحرب الأهلية السورية حيث تراوحت اعدادهم بين 20-10 ألفًا . ويذكر المؤلف أن وسائل الاعلام المحلية والاجتماعية التركية قد تبنّت موقفًا رجعيًا تجاه الأقليات المسيحية ، يرتبط بتزايد المشاعر المعادية لأوروبا وأميركا .
وعن المسيحيين في العراق يقول الكاتب أنه قد انخفض عدد سكان المجتمع المسيحي هناك في العقدين السابقين ، من حوالي 1.5 مليون قبل الغزو الاميركي عام 2003 الى ما يقارب من 250-200 ألفًا . وتتركّز الغالبية العظمى من السكان المسيحيين في سهل نينوى ، وداخل أقليم كردستان العراق . وبسبب النزاع المسلّح والعنف ، فإنّ المسيحيين العراقيين يشكلون حوالي 7% من النازحين داخليًا داخل حكومة أقليم كردستان . ويشعر المسيحيون العراقيون ، بغض النظر عن مشاكل حريتهم في التنقل ، والفساد ، والتأثير الاقتصادي ، وانتهاك حقوق الانسان – بالتهديد من التغيّرات في مدنهم ، بشكل عام . ويورد الكتاب أيضًا أنَّ المسيحيين في العراق مستمرون في الحفاظ على ميليشياتهم الخاصة خوفًا من قوات الحشد الشعبي ، الى جانب احتمال عودة داعش ، وقد حصلت بعض المليشيات المسيحية هذه على دعم من الحكومة المركزية في بغداد من خلال لجنة الحشد الشعبي التي تشرف على قوات الحشد . ويشير المؤلف الى أنّ وحدات حماية سهل نينوى هي ميليشيات سريانية ارثوذكسية وكاثوليكية في الغالب ، وتعمل تحت اشراف جهاز الأمن الوطني في بغداد ، ووجودها هو علامة على تماسك الأقلية المسيحية . وجدير بالذكر في هذا السياق أنّه قد تمّ اعادة عشرات المنازل والممتلكات المسيحية في نينوى الى أصحابها المسيحيين ، ونجح معظم المسيحيين في اصلاح منازلهم ، بمساعدة منظمات الإغاثة الأجنبية . وخوفًا من أن تصبح المسيحية ديانةً منقرضة في العراق ، دعا العديد من قادة الكنائس ، وغيرهم من المسؤولين العراقيين ، المسيحيين للعودة الى وطنهم ، بل أنهم قاموا بحثِّهم على البقاء لوقف هجرتهم .
ويكتب المؤلف عن أوضاع المسيحيين في سوريا حيث يشكّل المسيحيون أقلية راسخة في سوريا ، فقبل اندلاع الحرب الأهلية ، كان عدد المسيحيين يصل الى مليوني مسيحي ، أي ما يقارب 9% من اجمالي السكان . وينقسم المسيحيون في سوريا الى طوائف الروم الارثوذكس ، والأرمن الارثوذكس ، والملكيين الكاثوليك ، والكلدان والسريان الارثوذكس ، والسريان الكاثوليك ، وغيرهم . واغلب المسيحيين في سوريا ينتمون الى الكنيسة الرومية الارثوذكسية ، ومعظمهم من العرب . وبسبب الحرب الأهلية ، فرّ الكثير من المسيحيين فانخفض عددهم بصورة بالغة حتى ارتفع عدد اللاجئين المشرّدين المسيحيين الى اكثر من مليون .
ويضيف المؤلف في كتابهِ الى أنّ سوريا كانت مكانًا يتمتع فيهِ الناس بحرية العبادة ، دون عائق أو تغيير دينهم بشكل قانوني . وهذا الأمر ساعد في نمو مجتمع مسيحي كردي ، فهناك الكنائس الانجيلية الكردية في كوباني ، وعامودا ، وعفرين في سوريا . أما عن ايران ، فيورد الكاتب في دراستهِ المستفيضة أنَّ المسيحيين في ايران «في وضع أكثر أمانًا ؛ لأنهم في وضع أفضل من الأقليات الأخرى ، حيث يُعامل السكان بشكل أفضل من الدولة الايرانية ، ويتمتعون بمزيد من الحرية الدينية في الوقت الحاضر» . ومع كل ذلك ، فإنّ الكاتب من جهة أخرى يقول بأنّه «لا يزال المسيحيون في إيران يواجهون الاعتقالات ، والاستجواب ، والحرمان من حقهم في التعليم» .
ويصف الكتاب حال المسيحيين في الأردن بأنّ الاردن ملاذ آمن للمسيحيين من جميع أنحاء المنطقة ، فيبلغ عدد المسيحيين هناك بضع مئات من الآلاف ، ولهم جذور تاريخية في هذا البلد ، وتراثًا يعود الى أقدم فترات المسيحية .
ويختم المؤلف الفصل الأول من القسم الثاني في الكتاب بالتذكير بأنَّ «المسيحيين الشرقيين متعلمون بمستوى جيّد ، ومنفتحون ، ومتسامحون ، ومُحدثون» . ويقول إنّ هجرتهم ستحرم الشرق الأوسط من قوة معتدلة ، وستقوّي المزيد من القوى الأصولية المتطرفة .
ويضيف الكاتب بأنَّ الكثير من المسلمين يقدّرون اسهام المسيحيين ، وأنّ هجرتهم من الشرق ستؤثر سلبًا على الوجود المسيحي الآخذ بالتناقص ، فالشرق هو مهد المسيحية ، وبالتالي فعلى الحكومات العلمانية ، والمؤسسات المدنية والدولية أن تعمل معًا لضمان بقاء المسيحيين في اوطانهم الأصلية في الشرق .
وفي الفصل الثاني من هذا القسم يتناول المؤلف العلاقة بين الكنيسة والدولة في الشرق الأوسط ، مبيّنًا أنَّ العلاقات «تتأثر بين الكنيسة والدولة بكل من سياسات النظام ، تجاه وجود المجتمعات المسيحية ، والتصورات التي يتبناها المسيحيون فيما يتعلق بتأثير هذه السياسات على أمنهم .... ولا يزال المسيحيون (والمسلمون العلمانيون) متشككين (ومتخوفين) من أنّ تغيير النظام الذي يفضِّل الإسلاميين سيؤدي الى زيادة القيود العامة ، ويكون له تأثير سلبي على الرأي العام تجاه المسيحيين» .
وفي هذا الفصل الذي يتناول الحديث عن العلاقة بين الكنيسة والدولة ، يخبرنا الكاتب أنه ينتمي أكثر من 90% من السكان المسيحيين المصريين الى الأقباط الأرثوذكس ، وهذا يمثّل حوالي 5% فقط من إجمالي السكان المصريين . ويوضح الكاتب هنا أنَّ الكنيسة القبطيّة الارثوذكسية تمتع ببنية بطريركية قوية ، وللبطريرك دور روحي وسياسي معترفًا به من الحكومة والاتباع بشرط عدم استخدام قاعدة القوة هذه لتحدي الدولة التي اتجهت الى تبني سياسة عدم التدخل في شؤون الأقباط . ولكن كان لعملية الأسلمة التي كان يدعمها الرئيس السادات في عهده في السبعينات ، تأثير سلبي على المجتمع القبطي ، مما أدى الى هجمات على الأفراد والكنائس والشركات التي يمتلكها الأقباط . وكان هناك حملة قمع ضد جميع الفاعلين الدينيين ، وعلى رأس ذلك قام الرئيس السادات بنفي البطريرك شنوده الى دير صحراوي بحيث تدهورت نتيجة ذلك العلاقات المسيحية الإسلامية بشكل كبير خلال هذه الفترة . ومنذ عودة البطريرك من الصحراء عام 1985 في عهد الرئيس حسني مبارك ، كان البطريرك قادرًا على تصوير نفسه بأنه المتحدث باسم المجتمع ، وكانت الحكومة في عهد مبارك ، على استعداد لأن تنسب الفضل لشنودة في هذا المنصب . ويقول الكاتب في هذا الصدد أنّه «ربما الرغبة في حماية المكانة المتميزة للكنيسة ، هي التي دفعت البطريرك شنودة الى قبول نظام الملل الجديد ، ودعم دولة مبارك المتفردة» في ذلك الحين . أما في الأردن ، «فيظهر نظام الملل غير الرسمي في وضع واضح للأغلبية – الأقلية (المسلم السنّي والمسيحي) ؛ ومع ذلك ، لا توجد مجموعة مسيحية واحدة مسيطرة ، تُمثِّل معظم الطوائف ، بما في ذلك الروم الارثوذكس ، والروم الملكيين الكاثوليك ، واللاتين ، والبروتستانت» ويبلغ عدد سكان الطوائف المسيحية في الأردن قرابة 240 ألفًا وهذا العدد يمثّل حوالي 4% من اجمالي السكان . ويذكر الكتاب بأنّه تم تعيين المسيحيين في مناصب حكومية ودبلوماسية مهمة ، وهم ناشطون في الحياة الاقتصادية والاجتماعية . وعن سوريا يورد المؤلف أنه «توجد في سوريا أيضًا مجتمعات مسيحية متعدّدة ، لكن على عكس كل من مصر والاردن ، فلا يوجد انقسام أغلبية – أقلية واضح في البلاد .... وقد شارك المسيحيون السوريون تاريخيًا في الحياة الوطنية للبلاد ، بما في ذلك أثناء النضال ضد الاستعمار وفي صياغة إيديولوجية حزب البعث الحاكم» . وهناك عوامل تُسَهِّل انخراط المسيحيين في الحياة الوطنية ككون الدستور ينص على أنّ الاسلام يجب أن يكون دين الرئيس ، وليس دين الدولة ، منوّهًا الى ذلك الكتاب ، وملمًّحا أن وضع النظام نفسه على أنّه «دولة علمانية» ويقول الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى في الفصل الأوّل من القسم الثالت من الكتاب أنه «في الوقت الذي يستمر فيه المسيحيون في أن يحتلوا مقاعد في مجالس الوزراء والبرلمانات في الشرق الأوسط اليوم ، هناك خطر أن يبدأ المسيحيون والمسلمون ، على حد سواء ، في النظر الى هؤلاء الأفراد بأنهم مجرد زينة واخفاء لموقف لا يستطيع فيه المسيحيون المساهمة في مجتمعهم ، دون مساعدة كبيرة من اولئك الذين في السلطة» . ويضيف مؤلف الكتاب أنّه ليس من المستغرب أن يساهم المسيحيون بشغف في حركة ايدولوجية وعدت بالمشاركة على أساس الانتماء الى أمة عربية ، وليس الى دين معيّن . ومثال يسوقه الكاتب في هذه النقطة حول ظهور صانع للايديولوجية ، ينتمي الى الطائفة المسيحية وهو ميشيل عفلق الذي شارك في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا في الأربعينات مع زميل سنيّ له هو صلاح الدين البيطار .
وأخيرًا وليس آخرًا ، فإنّه مما تقدّم نجد أن قدس الارشمندريت الدكتور أغابيوس حاول جاهدًا في هذا الكتاب أن يضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بظروف المسيحيين في الشرق الأوسط عامةً وفي العالم العربي خاصةً حيث أنّه قدّم سيلًا من المعلومات التاريخية والمعاصرة في نواحٍ متعددة سواء كان ذلك في الاقتصاد ، والاجتماع والسياسة ، فابرز في كتابه الكثير الوافي في تصوير أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط ، فكان بذلك موضوعيًا الى أقصى الحدود دون أن يخفي بعض الحقائق الحسّاسة التي تخصّ المجتمع المسيحي ، فشرح تفصيليًا ما يدور في داخل الطوائف المسيحية ومشكلاتها ، وتحدّث عن دور الكنيسة عمومًا وعلاقتها بالسلطة الحاكمة ، وما يتخلّل ذلك من إيجابيات وسلبيات على مدار عهود من الزمن وخصوصًا العمل على الابتعاد والتخلّي عن الطبيعة التسيسيّة للدين ، وتجنّب الازمات في قضايا الأوطان .
فللأب الدكتور أبو سعدى ، أطيب التمنيات بموفور الصحة ودوام التوفيق والعطاء المثمر اكليريكيًا وعلمانيًا وثقافيًا .
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات