الطائفية والفساد صنوان منذ ولادة دولة لبنان
الطائفية والفساد صنوان منذ ولادة دولة لبنان
زياد شليوط
تفجير ميناء بيروت فجّر قضية الفساد ولم يكتشفها
عاد موضوع الفساد في لبنان يطرح من جديد وبقوة، اثر تفجير ميناء بيروت في الرابع من آب المنصرم، حيث سبق وانتفض اللبنانيون ضد الفساد والفاسدين في شهر تشرين أول من العام الماضي، في سلسلة مظاهرات استمرت على مدار أسابيع، دون أن تأتي بنتيجة. والملفت للنظر أنه عند العودة للحديث عن الفساد يبدو الأمر وكأنه جديد، وينصب الغضب على الحكومة التي تتولى تصريف أمور الدولة، او على الرئيس الجالس في قصر بعبدا، أو على القيادات الحزبية والسياسية. طبعا كنت كمراقب من بعيد، من فئة غير المعتقدين بأن الفساد ابن يومه، أو يتحمل مسؤوليته من هو في منصب وزاري أو سياسي في هذه الفترة، وأن الفساد لا يأتي وليد ساعته. وكي أتأكد أكثر عدت الى مؤلفات القائد السياسي اللبناني المعروف والمفكر والأديب الراحل كمال جنبلاط، مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، وهو الذي وضع عدة كتب في السياسة اللبنانية وتناول مواضيع لبنان الشائكة منذ قيام الدولة وحتى يوم استشهاده في آذار 1976، وفوجئت بما قرأته وكأن جنبلاط يعيش معنا الأزمات الجديدة ويكتب عنها. وهذا يدل على أن قضايا لبنان ما زالت هي هي ولم يطرأ عليها جديد، قضايا الفساد والطائفية السياسية ما زالت تسيطر على الساحة وتعود على نفسها، هذا من جهة من جهة أخرى فان ما ورد في مؤلفات جنبلاط تدل على بعد نظره ورؤيته العميقة والحكيمة لحقيقة ما يعاني منه لبنان.
وكما أشرت لا يمكن للفساد أن يكون ابن ساعته، لكن لم أتوقع أن يكون الفساد قد بدأ " منذ أن وجد لبنان الحديث، من سنة 1864 وجد الفساد وتكرست الطائفية السياسية"، كما يقول كمال جنبلاط. لذا على كل من يتناول موضوع الفساد أن يكف عن تزوير الواقع، وعن رش السم في الدسم. فلا حكومة حسان ذياب المستقيلة مسؤولة ولا الرئيس ميشيل عون ولا حزب الله، والاستغلال الرخيص للقوى اليمينية في لبنان لحادث تفجير ميناء بيروت، انما يدل على مخطط يهدف الى ضرب العهد وحليفته المقاومة، وهذا ليس بسر، فتلك القوى لم تتمكن من التأثير على الرئيس عون والحصول منه على مكاسب رخيصة، فأخذوا ينفضون عنه ويبتعدون، ويعملون في الوقت ذاته على تأليب جمهورهم على الحكم وعلى الدولة بادعاءات مختلفة.
وأكثر عمل نجس قاموا به، في استغلال غضب وحزن الناس المشروع على ما خلفه التفجير من خسائر بشرية ومادية فاقت المتوقع والمحتمل، وبدل أن يشاركوا في المظاهرات السلمية التي عكست غضب وحزن الأهالي، عمدوا الى توجيه جمهورهم الى الانفصال والتوجه نحو مكاتب وزارات لحرق المستندات والأوراق، وأدت الى مقتل عنصر أمني، فلمصلحة كل ذلك؟ هل هذا يصب في مصلحة الوطن لبنان، أم في مصلحة فئات معينة تستفيد من هذا الخلل؟
ان الهجوم المركز من خلال بعض وسائل الاعلام، على شخصيات محددة، ومنها الوزير السابق جبران باسيل ورئيس الجمهورية والسيد حسن نصرالله، وكأنها هي المسؤولة الوحيدة عن الفساد، ليس أمرا مضحكا أو مدهشا بقدر ما يدل على مخطط جهنمي تم الاعداد له من سنوات، وبتوجيه خارجي بهدف احداث انقلاب داخلي يطيح بالتوجه اللبناني العروبي، وإخضاع هذه الدولة الصغيرة لتقسيمات جغرافية وسياسية تخدم قوى خارجية لها مصالحها المتشابكة.
ان ما يمر على لبنان بعد تفجير المرفأ، كان له أن يبشر بمرحلة جديدة، لو ترك القرار لإرادة الشعب وعدم تدخل قوى سياسية داخلية ذات ارتباطات خارجية، لأن بناء لبنان الجديد كما قال الأديب والفيلسوف جبران خليل جبران " يستلزم السواعد القوية والأفكار الصائبة. ويستلزم الشجاعة والأريحية. ويستلزم الصدق والإخلاص. وفوق كل شيء يستلزم التضحية".
الطائفية السياسية والتبعية للخارج مصدر الداء في لبنان
ليس حظ الطائفية بأفضل من الفساد في لبنان، فالأمران ترافقا منذ تكون الدولة اللبنانية، التي انتهجت التقسيم الطائفي في الوظائف الكبرى وحتى الدرجات الدنيا. وغالبا ما جاء التقسيم الطائفي بتوافق واتفاق الأطراف اللبنانية خاصة الكبيرة وصاحبة القرار وفق كل حقبة وحقبة. وكانت أول بادرة للطائفية السياسية في لبنان بشكل القائمقاميتين الدرزية والمارونية، بحل لما سمي " سنجق جبل لبنان" وتضمن تكريس سلبياتها فالمذاهب تحولت الى أحزاب، الوظائف، مناطق إدارية كلها على أساس تقسيم طائفي.
ولما قامت انتفاضة إبراهيم هنانو في جبل الدروز 1935، كادت أن تتحول الى طائفية بتغذية من الانتداب الفرنسي، لكن تم تطويق ذلك على أسس القومية العربية التي توحد ولا تفرق. ومع الاستقلال 1943 انحنت الدولة نحو العروبة فدخلت الجامعة العربية واتفق اللبنانيون على "الميثاق الوطني" الذي رسم وجه لبنان العربي والمحايد.
ويعود التاريخ الطائفي لاحقا على نفسه مع اتفاق الطائف بعد الحرب الأهلية (اندلعت عام 1975)، ولم ينجح حراك الشارع في تشرين 2019 وما تلاه من الغاء الطائفية، وسرعان ما تم أخذ الحراك الى التقسيم الطائفي. ويعود هذا التقسيم لأن لكل حزب سياسي وشخصية سياسية دولة في الخارج، تسانده وتعاضده "كالشاعوب" الذي تسند اليه وتربط به الشجرة الصغيرة النامية.
ومن يتابع مجرى السياسة اللبنانية فهذا كان حالها منذ سنوات طويلة، لذا بدعة "النأي بالنفس" ليست سوى محاولة بائسة من قوى مرتبطة بالرجعية العربية والغرب، وهي تريد تطبيقها على خصومها، بينما تبيح لنفسها التبعية. وكل هدفها النأي بلبنان عن سوريا لاعتبارات سياسية ضيقة، بينما لا يمكن فصل لبنان عن سوريا اقتصاديا وتجاريا وزراعيا وسياحيا، وتقريبا في معظم مرافق الحياة، وكسب لقمة العيش لمعظم المواطنين، الذين تربطهم مصالح عمل مع الجارة والشقيقة سوريا.
لقد عصفت بلبنان الرياح السياسية، ولما انتشرت القومية العربية مع بروز الرئيس المصري جمال عبد الناصر، كرائد للقومية والوحدة العربية حاولت عدة قوى لبنانية الحاق بلدها يركب الوحدة العربية، رغم أن لبنان بلد مركب من ستة عشر مذهبا ومدرسة فكرية وملة. وهذه الفسيفساء يجمعها ويضمها ويوحدها في تدرج متزايد، رباط اللغة العربية وتراثها السياسي والاجتماعي والعلمي والأدبي النامي، وسبق أن كان للارساليات التبشيرية دور مؤثر على تطور وانتشار العلم والثقافة والفكر والوعي الذي يصل الى القناعة بالعروبة. وتشكلت جمعيات علمية احداها رفعت اول نداء لحركة القومية العربية، وفي وقت متأخر قامت جمعية وطنية عروبية بدأت مسيحية لكنها تحولت الى جامعة لمكونات الشعب. ويؤكد المؤرخ د. اميل توما على أن اللبنانيين انقسموا بين مؤيد للانتداب الفرنسي وفريق يؤيد الوحدة العربية، "وكان تيار الوحدة في لبنان أقوى من تيار الانفصال.. خصوصا وان الحركة القومية العربية لم تنجر وراء الاستفزاز الاستعماري الفرنسي وتجعل المعركة بين سوريا ولبنان". (الأعمال الكاملة- المجلد2، ص 227)
بينما نقرأ المعلم كمال جنبلاط وكأنه يصف حال لبنان وما ينتابه اليوم "إن الأسباب الحقيقية للثورة اللبنانية الأخيرة لا تزال قائمة، ولا تعالج إلا بأسلوب ثوري على الأقل في روحيته وفي نهجه..اما اذا عولجت الأوضاع اللبنانية بروح "النصفية" المسيطرة، أي بروح الطائفية والمسايرة والتسوية، فاننا نكون كمن يدفن – إلى حين آخر وإلى ظرف مناسب مقبل- بذور الثورة في أرض لبنان".
فهل يمكن لبلد "تقوم فيه الطائفية السياسية مقام الدين"، أن ينجح في الثورة على تقليده، وترسيخ نظام مدني يقوم على أساس المواطنة التامة والمتساوية، كما دعا الرئيس ميشيل عون، في الذكرى المئوية لاعلان لبنان الكبير؟
أم أن ما سبق وأكده المعلم كمال جنبلاط "إن التكوين الطائفي السياسي يحول دون صيرورة الجماعة اللبنانية وحدة وطنية حقيقية، وكيانا سياسيا موحدا، وبالتالي شعبا ودولة". سيبقى هو سيد الموقف والمشهد في لبنان الجريح؟!
(شفاعمرو – الجليل)
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات