الشاعر عمر أبو ريشة وحكايته مع الرئيس الأمريكي جون كنيدي.

بقلم الدكتور منير توما

كفرياسيف

 

عمر أبو ريشة هو الشاعر السوري الكبير الذي وُلِد في منبج في محافظة حلب سوريا (1915-1995)، ووالده هو شافع ابن الشيخ مصطفى أبو ريشة ووالدته هي "خيرة الله" من مواليد "بنزرت" تونس، وقد نشأت والدته في عكا مع أبيها الشيخ "ابراهيم اليشرطي" ابن القطب علي نور الدين اليشرطي، وقد اتسمت والدته بالذكاء المتوقِّد، ورغم انتماء أمه إلى أسرة دينية إلّا أنها منفتحة، وتعي الكثير من مشكلات عصرها السياسية والاجتماعية علمًا بأنّ والد عمر أبو ريشة شافع قد درس الحقوق في دمشق وأتمّ دراسته في استنبول.

إنّ الشاعر عمر أبو ريشة قد ترعرع ما بين سوريا ولبنان. وقد درس في الجامعة الأمريكية ببيروت. وسافر إلى لندن لإتمام دراسته العليا، وعندما رجع إلى بلاده عُيّن مديرًا لدار الكتب الوطنية بحلب. وقد كان عمر أبو ريشة متأثرًا بوالده دينيًا، حيث كان يعتبره أستاذه الروحي، وكذلك بالجو الصوفي للعائلة كلها، وفي فترة وجوده في لندن عرف أثر الحريّة في حياة الأمم، وبدأ منذ ذلك الحين يحلم بأن تعم هذه الحرية بلاد منطقته المغلفة بالكبت والقهر والتخلف، وكان يؤمن بقدرات وكفاءة الانسان العربي لو اتيحت له الفرصة بذلك.

وفي لندن أقبل بنهم على دراسة الأدب الإنجليزي، وقراءته للأدب الإنجليزي كانت ذاتية، ولذلك كان تأثره بها بعفوية دون تدخل المنهج الأكاديمي وآراء النقّاد. وتأثره بالشعر الإنجليزي بدأ يظهر بوضوح في نتاجه فيما بعد، وكان هذا بداية ظهور "الكلاسيكية الجديدة" (neoclassicim) في الأدب العربي.

ومما يشار إليه أن الشاعر عمر أبو ريشة كان قد أحبَّ في لندن فتاة انجليزية بكل جوارحهِ، وقد أعجب والدها الثري بأخلاق وذكاء الشاعر، وكانت فترة الحب بين عمر وهذه الفتاة حافلة بالأحلام الوردية، وحينما عاد إلى حلب وأخبر أهله برغبته في الزواج منها، باركوا له حبّه، ووافقوا على ذلك، ولكن لسوء الحظ عندما رجع إلى لندن وجد الفتاة قد توفيت بمرض التيفوئيد، فحزن حزنًا شديدًا، وشعر بتحطُّم الآمال في نفسهِ.

وبتوارد الأحداث وتواليها فإنّه من سنة 1949 إلى سنة 1970 أُلحق الشاعر بالسلك الديبلوماسي وزيرًا مفوضًا أو سفيرًا، فخدم بلاده في هذا المجال في الأرجنتين، الهند، النمسا، فالولايات المتحدة الأمريكية، وكان يتقن ست لغات بالإضافة إلى ما يتمتع به من ثقافة واسعة، وآفاق فكرية رحبة، فأجاد في عمله السياسي ونال عدة أوسمة برتبٍ رفيعة. وقد قضى الشطر الكبير من حياته في خدمة بلاده وخدمة القضايا العربية في شتى اقطارها، واعتزَّ بالكرامة العربية في شعره، وأظهرَ مشاهد الظلم والقهر من خلال الكبرياء الجريح، والعزة المستباحة التي عبر عنها بلهجة فيها الحرارة والانطلاق والفاعلية المثيرة للعواطف ومشاعر المتلقين. ومن اللافت أنه يثق في الشعب العربي من أي قطرٍ كان وإلى أي طائفة انتمى.

وفي هذا السياق، لا بُدَّ لنا أن نذكر أنه في عام 1961 تم تعيين الشاعر السوري عمر أبو ريشة في العاصمة واشنطن سفيرًا لسوريا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كان في ذلك الحين الرئيس جون كنيدي رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية الذي كان يُعرف بثقافته الواسعة واهتمامه وشغفه بالحضارات الانسانية في ما يقع بعيدًا عن موقع القارة الأمريكية. وقد حدث أنّه أثناء تقديم السفير السوري عمر أبو ريشة أوراق اعتماده إلى الرئيس الأميركي كنيدي، طلب الرئيس كنيدي من السفير الشاعر عمر أبو ريشة أن يحدّثه عن سوريا والسوريين بشكل أكثر تحديدًا، فما كان من أبو ريشة إلّا أن أجابه بذكاءٍ ونباهة الدبلوماسي الرصين، والشاعر اللمّاح بقوله: "يا فخامة الرئيس، إنّ سوريا هي بلد جدّنا السوري (يسوع المسيح) الذي هو ربكم!" وبالانجليزية:

“Mr. President, Syria is the country of our syrian grandfather, Jesus Christ, who is your Lord.”

وقد كانت هذه العبارة المتّسمة بالفطنة والذكاء فاتحة إعجاب مستدام من الرئيس كيندي لتكوِّن صداقة شخصية بين الشاعر أبو ريشة والرئيس كنيدي تتجاوز الخطاب الرسمي في العلاقات الديبلوماسية السياسية، ولتجعل الرئيس الأميركي جون كنيدي يحترم أبو ريشة الذي خاطبه بعبارته المذكورة بما يوحي بخطاب الأنداد.

وفي كل لقاء، فيما بعد، مع الرئيس كيندي كان أبو ريشة يلقي في مجلس الرئيس ما كان يحفظه من الشعر الانجليزي حيث ينصت إليه كيندي، طالبًا من أبو ريشة في كل لقاء بينهما أن يخبره على شؤون العرب وشهرتهم في أدبهم وشعرهم وفنونهم اللغوية الخطابية.

ومن الطريف أنّه في إحدى الجلسات الخاصة غير البروتوكولية، أعرب الرئيس كيندي عن إعجابه الشديد مما سمعه من أبو ريشة من جماليات ابداعه وتعبيره وأقواله، قائلًا له: "أنت مبدع يا عمر، ولو كنت اميركيًا لعيّنتك مستشارًا خاصًا لي"، فأجابه أبو ريشة المعروف بسرعة وحضور بديهته: "فخامة الرئيس، لو كنتُ اميركيًا لكنت الآن أجلس على كرسيك في البيت الأبيض.".

ومما يستدعي الانتباه أنّه بعد مرور اكثر من ستين عامًا على اللقاءات المذكورة بين أبو ريشة وكيندي، ورحيل كل منهما عن هذه الدنيا، فقد تركت ردود أو إجابات أبو ريشة لأسئلة الرئيس كيندي، برهانًا ودليلًا قاطعًا على جرأة أبو ريشة وثقته الفائقة بنفسِه، ورونق التعبير رفيع المستوى الذي يتحلّى به والذي يبعث الثقة والاحترام بين الاشخاص مهما كانت الحواجز الاقتصادية والسياسية بين الأطراف في حديثهم. وممّا يستوقفنا على سبيل الدعابة صحيحة المضمون هنا أن نستنتج أنّه تأسيسًا على ما قلناه بشأن حكاية أبو ريشة والرئيس كيندي أنّه قد نشأت في حينه كيمياء انسانية أو لغة مشتركة بينهما بفعل ثقافتهما الواسعة الجديّة علاوةً على الحقيقة أنّ الرجلين يتَّصفان بالوسامة وبحسن المظهر مما يضفي على المضمون الدبلوماسي السياسي، جمالية الشكل والتعبير الأنيق للشاعر أبو ريشة الذي أثار اعجاب واحترام الرئيس كيندي الذي عُرِف عنه الحكمة وحُسن التقدير للأشخاص النابهين الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف كالشاعر عمر أبو ريشة؛

ومن المهم في ختام الموضوع الذي طرقناه في هذا المقام أن نورد قصيدة من بضعة أبيات جميلة بعنوان "وحدي" للشاعر الكبير عمر أبو ريشة حيث يقول فيها:

وحدي، والغربةُ كم قسمتْ

بيديها من جرحي الدامي

وأرتني في كل مطافٍ

لهيامي رقةَ أحلامي

وأشاعت حولي في ظلمات

الليل عذارى إلهامي

وحدي ودروبي هاجعةٌ

لولا تهويمةُ آثامي

في هذه الأبيات يمعن شاعرنا في تجربته الشعورية الرائعة في الإيحاء، والحافلة بالرونق الوجداني الذي يزيد الموقف تصويرًا وابداعًا تخيّليًا ذا شطحات واسعة الصورة بعيدة المرمى.

ومن الجدير بالذكر أنّ الشاعر أبو ريشة تابع حياته وأنهى مسيرته بوفاتهِ في المملكة العربية السعودية بما في ذلك من رمزية كبرياء اللغة العربية وعراقتها في تاريخها المفعم بعذوبة الشعر والأدب والمجد العريض.

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم