قصة قصيرة: مَنْ هُناك؟.. بقلم: ميسون أسدي
قصة قصيرة: مَنْ هُناك؟.. بقلم: ميسون أسدي
ما قبل
كانت السماء مرصّعة بالغيوم في تلك الليلة، وتفوح رائحة التربة وشذى الأزهار والنسيم عليل، ما أروع ذلك! الساعة التاسعة والنصف مساء. استحمّت عايدة والقت بنفسها على الكنبة بارتخاء من تأثير الحمّام الساخن. تسرب ضوء القمر وغمر نوره وجهها. كان نصف جسدها ملقى خارج الكنبة بسعادة لا تضاهيها سعادة. ينتظرها هذا المساء سهرة مع شلة من الأصدقاء حتّى ساعات الفجر. أحسّت بفرحة غامرة، فرحة كبيرة جدًّا، حتّى خيّل إليها أنّ صندوقًا موسيقيًّا يجول في داخلها وتنساب منه ألحان مرحة رقيقة.
فجأة، شعرت بشيء خبط في حديقة منزلها الذي استأجرته منذ شهر في حي للأغنياء. التفتت وتساءلت: هل ممكن ان يكون هناك قط أو كلب قفز إلى حديقة البيت، ولكن بسبب تراخي جسدها من الحمّام الساخن تثاقلت ولم تخرج لتتفقد ماذا حدث.
المقتحم
انقضّ عليها وهي مسترخية على الكنبة في أوج راحتها. أغلق فمها بإحكام وكتم صرختها بكفه وضغط بركبته على عنقها وقال بلهجة محلية: اسكتي أحسن اقتلك. واحبطها الغيظ الذي يعتمل فيك عندما تصرخ فلا تسمع الصراخ، اقشعرّ بدنها وكأنّ نملا باردًا يسري في ظهرها، راحت تمطمط شفتيها وحنكها يرتعش. خنقها. شعرت بأنّها ستسلم الروح، فارتخى جسدها واحتقنت عيناها دمًا. أسبلت عينيها، انه السبات الفظيع قبل الموت. وغاصت في غيوم الكرى الناعمة الدافئة.
شعر المقتحم بإغماءاتها، فأرخى أصابعه من على عنقها وأزاح ركبته، معتقدًا أنّه سيطر عليها. عندها، قبض بكامل كفّه اليمنى على أعضاءها الحميمية. في هذه اللحظة حضرها صوت والدها وهو يقول لها: يا ابنتي إذا اعترض أي رجل طريقك فجّيه برأسه بالحجر ولا تخافي. عندها، استردت قوتها، فنزعت القناع عن وجهه ولبطته لبطة قوية برجلها على صدره وصرخت صرخة دوت في الحارة كلّها، فخاف المقتحم كثيرًا، خاصّة بعد أن كشفت وجهه.
كان شابا في العشرينات أبيض البشرة، شعر لحيته مرتبة وعيناه الخضراوان ببؤبؤيهما الضيقتين تتقدان، وكفّي يديه ناعمين. فكما يبدو أنّه من أبناء الذوات… نظرت إلى وجهه وكان مألوفا لها لكنها لم تستطع تذكره، فقد فرّ هاربًا من وجهها على الفور حين كانت الغربان في الحارة تنعق بصورة مخيفة… بعد لحظة من التفكير، فهمت عايدة بأنّ الشاب كان يراقب تحرّكاتها وانّه دخل بيتها مسبّقًا، لأنها كانت تشعر بأنّ هناك من يقدّم الطعام لقططها وهي خارج البيت.
ضيعت الدرب
حضرت الشرطة وسألها أحدهم: لِما باب البيت الرئيسي مفتوح؟
نظرت إليه بنظرة خالية من الحياة، لكنّها نظرة متمعّنة للغاية. استغربت ما علاقة سؤاله بالاعتداء، هل سيذنبها الشرطي قبل بداية التحقيق. ثمّ بدأت الشرطة بالتحقيق، أخذوا بصمات أصابعه، سألوها إذا سرق أي شيء، فأكّدت للشرطي بأنّها لم تكن محاولة سرقة بل اعتداء جنسي، وبأنّ المعتدي كان متربّصًا لها ويراقب تحركاتها. جرى التحقيق معها بحضور بعض الأصدقاء الذين هبّوا لنجدتها وبعضهم يتولّون مناصب رفيعة. تعاملت الشرطة مع القضية وكأنّها قضية غير مهمة، فبالنسبة لهم لم تحدث سرقة ومحاولة الاغتصاب فشلت. لم تذكر عايدة أمامهم بأنّ المقتحم وضع يده على أعضاءها الحميمية، ففهمت أن القضية منتهية. تلاحقت الذكريات والروائح التي تثير الانفعالات في جسدها وروحها.
سرق الفرحة
عايدة عزباء. تستقبل في بيتها ضيوفا منهم رجالا ونساء. تخرج إلى الشارع لترمي القمامة ببنطلون قصير. تتجول في حديقة منزلها بحرية. تطعم القطط بملابس لا تناسب الجيران وأجواء الحي المتزمّتة، وأحيانا تذهب إلى الحفلات مع زملاءها وتعود بعد منتصف الليل ليقوموا بشقاوات الليل ويتنعمون بالحياة والحب والسعادة، ولم تأخذ بالحسبان بأنها ابنة ثلاثين عاما وليست من سكان المنطقة بل غريبة والنظرة اليها تشوبها التفحصات.
في ليلة الاعتداء كانت خطتها ان تسهر مع شلة من الأصدقاء في أحد البارات ليغنوا ويرقصوا وليدخنوا الحشيش ليغيبوا عن الوجود ويعيشوا لحظات ملتهبة تومض بالفرحة الخاطفة، ففكّرت أنها لو عادت إلى البيت وهي غير واعية من الشراب والدخان وقام ذلك الشاب بالاعتداء عليها، فماذا سيكون السيناريو حينها، هل سيكتفي باغتصابها، هل سيقتلها، أم أنها ستصحو باليوم التالي ولن تتذكر شيء من ذلك. لكنه نجح وسرق منها فرحتها.
غفوة
بعد أن غادر رجال الشرطة والأصدقاء من بيتها، شعرت عايدة بإرهاق شديد، فقرّرت أن تأخذ غفوة لتريح جسدها وتفكيرها، فقامت بإغلاق جميع الأبواب والنوافذ جيّدًا، ودخلت سريرها، وما هي إلا لحظات حتى غاصت في نوم عميق…
- دق، دق، دق…
استيقظت عايدة على طرق خفيف على باب شقتها، نهضت متثاقلة، معتقدة أن أحد الأصدقاء حضر للاطمئنان عليها، وكانت المفاجأة عندما فتحت الباب، شاب في العشرينات أنيق يقف ببابها، أبيض البشرة، شعر لحيته مرتبة وكفّا يديه ناعمين وعيناه الخضراوان ببؤبؤيهما الضيقتين تنظران بمسكنة، ولم تكد تنبس ببنت شفة، حتّى بادرها بالقول:
- لا تقولي أي كلمة قبل أن تسمعيني، فقد جئت لأصلح ما بدر مني.
استمرّت عايدة بالنظر إليه باندهاش، واستغربت من نفسها كيف لم تخف من الشاب الذي اعتدى عليها قبل عدّة ساعات.
- هل تسمحي لي بالدخول.
لم تدر عايدة ماذا جرى لها، وكأنّ الشاب ألقى عليه بسحر جعلها تدخله وتجلسه في الصالون وحتى أنها سألته إذا كان يريد أن يشرب شيء؟
تكلّم الشاب كثيرًا، معبّرًا عن ندمه لما فعل، معللا ذلك، بأنّه يراها يوميّا بملابسها المغرية في حديقتها، وبأنّه أصبح شغوفًا بها، ويفكّر بها ليل نهار، وبأنه كان على يقين بأنها سترفضه لو طلب صداقتها، فهو كما قال خجول جدًّا ولم يتكلّم مع بنات من قبل.
لم تدقّق عايدة في كلماته، كانت تنظر إليه بإعجاب مفتونة بحسنه، وعندما شعر الشاب بأنّه استنفد ما عنده من كلام، انتظر ردّة فعلها، لكنّها بقيت صامتة. عندها استأذن منها ليعود من حيث أتى مؤكّدًا على تأسّفه.
فقط عندما وصل الشاب إلى الباب يقصد الخروج، خرجت عايدة عن صمتها، وقالت:
- لم تقل لي إذا كنت تريد أن تشرب شيء.
من هناك؟
بعد أسبوع من ذلك اليوم العاصف، قرّرت عايدة أن تعود إلى بلدها لتقيم في بيت والديها اللذين فارقوها إلى مدن السماء منذ حولين. ومنذ ذلك الحين، تغيّرت حياتها. أخذت تراقب كل خشخشة أوراق الشجر خارج البيت أو نباح كلب أو مواء قطة، تراقب الشبابيك إذا كان هناك أي متلصص وتتفقّد ماذا وراء الأبواب، وفي كلّ مرّة تسمع حركة أو صوت غريب، تصرخ بصوت عال: من هناك؟
لم تساعدها الجلسات مع الاخصائية النفسيّة ولا الإبر الصينيّة التي غرزت في جسدها، وعشّش الخوف في داخلها، وكأنّ هناك من يراقبها بصورة دائمة. أصبحت وهي مقيمة في بيت والديها، تتحسّس الوحدة والإهانة بشكل أكثر شدّة وقساوة. ولم تعد تدر ما هو سبب حزنها الشديد وكأنّ الشمس غابت إلى الأبد وراء الأفق البحري البعيد، والغسق الكئيب سيظل مخيّمًا طول العمر ولا أمل في انجلائه.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات