كلّ معاني الحياة

سهير شحادة

إِنّها ليست المرّة الأولى الّتي يجنّ بها جنونها ويستشيط غضبها، فتبعثر أوراقها، أشياءها وأحزانها فتتطاير في كلّ مكان، حتّى تبلغ ذروتها في فضاء الغرفة... ثمّ تعود أدراجها لتحطّ في مكان ما... عند بقيّة الأشياء بفعل غضبها الثّائر.

وهذه ليست المرّة الأولى الّتي تطلِق فيها صيحات العتاب في وجه أمّها وأبيها. إنّه ذلك الغضب العارم الّذي يجتاح قلبها كلّما وصلها شيء منه دون سابق إنذار...

كان الغضب يتربّص في داخلها، يقبع في زاوية صغيرة، يترقّب روحها الضّعيفة الّتي تعوّدت على انتفاضة مؤقّتةٍ تنتهي في غضون دقائق معدودة، يليها صمت رهيب يخيّم في أرجاء المكان حيث تنهار كأنّها مُذنَّبٌ مشتعلٌ وقع من أبعد نقطة في الفضاء ليتحوّل تدريجيًّا إلى صخرة سوداء تنبعث منها رائحة الرّماد بعد أن اصطدمت بالأرض وأحرقت كلّ من حولها...

كانت نظرات من حولها تبحث عن درب للخلاص من تلك اللّحظات العاصفة، نظرات خائفة من ردّ فعل قادم لا محالة...

"كيف يتوقّع أن أغفر له وأسامحه؟ نعم... سنوات مضت وذاكرتي المغبرّة تأبى محو ما فعله" حدّثت نفسها بعد أن انزوت في غرفتها.

عادت نوبات الغضب وعادت معها الآلام لتغزو أحشاءها من جديد بقسوة، وهي تدرك حجم معاناتها. ولو قدِّر لنا أن نتخيّل ليلى في تلك اللّحظة كنّا سنشاهد روحًا تحوم في فضاء الغرفة كنحلةٍ تطير بشكل لولبيّ تطلق أنفاسها الأخيرة.

لم تعرف ليلى التّصرّف بعد ذلك، سوى التّحديق في أرضيّة الغرفة دون هدف أو غاية، وأنفاسها تخرج متقطّعة متألّمة عند الزّفير.

شعور من الحقد راح ينمو منذ مدّة طويلة في أحشائها كالجنين الّذي راح يكبر يومًا بعد يومٍ حتّى اكتمل نموّه. كانت تحسّ بحركته تهزّ أضلاعها كلّما يأتيها خبر منه. وكم تمنّت أن تجهض ذلك الكره، إلّا أنّ محاولاتها كلّها باءت بالفشل!

رمت بجسدها ليستقرّ في الفراش، وعادت تحدّث نفسها: "بأيّ حقٍّ يرسل الرّسائل والورود؟ ألا يدرك بأنّ تلك الرّسائل هي غذاء لنيران مدفأتي؟؟ ألا يدرك بأنّ الورود مصيرها المحتوم أن تُدفَن في مقبرة الذّكريات؟! "

مكثت في سريرها حتّى ساعة متأخّرة من اللّيل، بعد أن أفرغت محتويات الدّرج الخشبيّ العتيق؛ رسائل متآكلة الأطراف كانت تدوّن فيها أفكارها وأحلامها وآلامها. تاهت الكلمات والحروف في تلك الرّسائل الّتي أصابتها الهشاشة. وسلسلة ذهبيّة تعود لابنها الصّغير جواد... وكومة من الصّور، وفي كلّ صورة ألف حكاية وحكاية، وألف ضحكة وغصّة!!

فقدت ولدها منذ سنين...ومنذ ذلك الوقت قررت أن تعدِم حبّها لذلك الانسان الّذي ارتبطت به لسنوات. كانت تعتقد بأنّ علاقتها بشهم هي علاقة لن يمحوها دهر أو زمان...علاقة مصيرها الخلود كالكتب السّماويّة وسيرة الأنبياء، فَلن يجرؤ أحد على زعزعة مكانتها أو الازدراء بها.

كان حبّهما مليئًا بالأحلام مغمورًا بأجمل الأمنيات. وابنها جواد حلّ عليهما كأجمل عطيّة من ملائكة السّماء، كيف لا؟ وهو ثمرة لحبّ كبير يفوق كلّ قصص الحبّ...

كانت المرّة الأولى الّتي تشعر بها بمعنى الأمومة...وعبّرت عنها بشتّى الصّور والألوان، بل وتعمّقت تلك المشاعر حين ولدت طفلًا يعاني من تخلّف عقليّ يعيق نموّه كبقيّة الأطفال، وهي مسألة أدركت عمق صعوبتها والمشقّات الّتي تكمن فيها.

تلك الحياة الجديدة أحدثت شرخًا في علاقتهما وتركت شُقوقًا اتّسّعت مع الوقت. لم يستطع شهم تقبّل واقعًا فيه طفل يحتاج إلى رعاية واهتمام، أو بالأحرى كان أنانيًّا اختار التّعاطي مع قشور الحياة مهملًا تلك التّفاصيل الصّغيرة الّتي تنسجها الحياة...حياة اختار ألّا يعيشها مع شريكة حياته وطفلهما. أمّا ليلى فقد كانت تنظر إلى طفلها بشغف وحبٍّ لا ينقطعان...كانت توثّق كل لحظاتها مع وحيدها...عند صراخه وهياجه، وحين تصدح ضحكاته وقهقهاته...أحبّته كما هو ووجدت فيه كلّ معاني الحياة، لا سيّما حين كان يلجأ إليها ويرتمي في أحضانِها معبّرًا لها عن أثر وجودها في حياته.

أحسّت ليلى بامتعاض شديد كلّما تذكّرت شهم وتذكّرت أعذاره السّخيفة الّتي كانت تمنعه من قضاء وقت مع طفله الصّغير...ويزداد امتعاضها حين توقظها ذاكرتها كيف كانت تخلق له الأعذار، فالحنين إلى حبّه في تلك الأيّام كان يهزمها أشدّ هزيمة.

ومع مرور الوقت بات هذا الحبّ جافًّا متشقِّقًا لا تكفيه كلّ معايير الحبّ والامتنان. وكثيرا ما كانت تجد نفسها في حالة ضياع كأنّها تعتلي أرجوحة معلقة بين السماء والأرض، السماء تشدّها الى فوق بينما تسحبها الارض لتحط بها الى الأعماق...

ساءت الحياة بينهما وأضلَ شهم طريق العودة إلى زوجته وابنه، وإلى حياته معهما...وراح يغيب أسابيع وأشهر بحجّة أعماله المتراكمة ووجوب إطالة أسفاره الّتي اصطبغت دوما بأعذار اضطراريّة تفوق رغباته. وطال غيابه وفي نهاية الأمر اختار الافتراق عنهما حتّى بعد أن علم بأنّ ابنه بات يعاني مرضًا ألزمه الفراش لمدّة طويلة.

غرقت ليلى في دوّامة من اللّوم والعتاب!!! كيف تمكّن شهم من تقنّع الحبّ؟ وكيف تمكّنت هي من الحياة في حبٍّ يرتدي كلّ أشكال الزّيف؟؟!

إنّ أفعاله هذه تندرج في خانة الخيانة لها ولطفلها جواد!! خاصّة بعد أن رحل الأخير عن الدّنيا دون وداع، فمزّقها الألم وتركها بقايا أشلاء هنا وهناك، وها هو الآن يلاحقها طالبًا العودة إليها....

أوشكَ النّور أن يطلّ على أرجاء البسيطة بسكونٍ لا يدركه سوى من تعب من تلك الأرجوحة المثقلة بالأفكار والتّخبّطات...واستقرّت هذه الأرجوحة هناك في أعلى الفضاء، تميل بِها يسارًا ويمينًا في طمأنينة وارتياح.

ارتشفت ليلى قهوتها على مهل هذا الصّباح، ولاحت على وجهها ابتسامة عريضة تبشّر لها بانقشاع الحقيقة: أنّ ذلك المدعو شهم صار أشبه بفكرة ترفرف بعيدًا عن محيط تفكيرها، وهي قد حسمت الأمر بأنّها لم تخلق لتنسى ولدها الصّغير، وذلك الشّهم سيبقى تائهًا بلا عنوان...

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم