قراءة في كتاب «شرفات نقدية في الشعر الفلسطيني المعاصر» للدكتورة جهينة الخطيب

 

بقلم : الدكتور منير توما

كفرياسيف

 

إنّ الدكتورة جهينة عمر الخطيب تهدف من خلال دراستها في كتابها «شرفات نقدية في الشعر الفلسطيني المعاصر» الى تسليط الضوء على التطوُّر الفني للشعر الفلسطيني منذ أواخر الثمانينيات وحتى يومنا هذا وطرائقِ مجاراتِهِ للتيارات الشعرية الحداثية . وفي هذا السياق فإنّها تتطرّق في وصول كتابها هذا الى عددٍ من الموضوعاتِ النقديةِ والبحثيةِ فيما يتعلقُ بنموذجاتٍ من عدةِ شعراء فلسطينيين في ابداعاتهم الشعرية المتنوعة وتعرضُ من خلال ذلكَ على سبيل المثال فصولًا مختلفةً في عمليتي البحث والنقد كالتناص وتجلياتِهِ في الشعر الفلسطيني ، وكذلك ملامح الفلسفة الوجودية في الشعر الفلسطيني وثيمة العشق في هذا الشعر ، علاوةً على الفكر العبثي فيه ، بالاضافة الى ظواهر سيميائيةٍ فيه ، وتمثلات الذات الانثوية ، وشعرية الحنين والغربة والبنية السردية في هذا الشعر ، وتمثّلات الميتاشعرية في الشعر الفلسطيني وغير ذلك من الأبواب النقدية البحثية .

لقد عمدتْ الدكتورة جهينة في عملية النقد في هذا الكتاب الى اعتبار النقد وسيلةً مُثلى لتقييم الشعر الفلسطيني في الحَقْبَةِ المذكورة ووضعِها على المحك . فالنقد لديها في النماذج أو النموذجات الشعرية التي طرحتها هو التقدير الشخصي الإنطباعي للأثر الفني المدروس وبيان قيمتِهِ في ذاتهِ ودرجتهِ بالنسبة لسواهُ . والنقد الأدبي هنا هو فنُ الحكم على الأساليبِ الأدبيةِ الشعريةِ الفلسطينيةِ المختلفةِ ببيانِ نواحي القوة فيها والضعف ومواطن الجمال والصحة والخطأ . وقد قامتْ الدكتورة جهينة في مقالات هذا الكتاب بالكشفِ عن جوانب النضجِ الفني في النتاج الشعري وتمييزِها مما سواها عن طريقِ الشرح والتعليل والتنظيم حيث تطلّبَ ذلك منها وضعَ نظامٍ من الملامح المميزة للنصوص المدروسة مع الإشارة الى أنَّ الكاتبة الناقدة في كتابها هذا قد أحسنتْ في لجوئها الى التأويل باستنادها الى علومٍ مساعدةٍ تمكّنُها من إضفاءِ معنىً على هذه النصوص المدروسة . وهذا ما جعل الكاتبة تقومُ بإعطاءِ فكرةٍ عن القيمة المعرفية المتولدة عن بيان تحليل معين كتحليلها مثلًا لحوار التناص في ديوان «ما أمرّ العنب» للشاعر شفيق حبيب ويمكننا القول هنا إنَّ الكاتبة الناقدة قد حاولت دراسة النص الأدبي الشعري في منهج ذي بُعدٍ نصيّ بنيويًا وأسلوبيًا ، فهي في تجليات تناص هذا الديوان الشعري تذكر أنّ التناص في «استحضار أبي نواس» و «استحضار الهنود الحمر» و«استحضار قابيل وهابيل» هو تناص امتصاص ، وفي «استحضار السيد المسيح» فإنَّ التناص هو تناص اجترار مع وضع الكاتبة الناقدة للمبرّرات والمُسَوِّغات في تعبيرها أو مصطلحها النقدي هذا . وعند هذه النقطة أرى أننا يجب أن نتوقف عند الفرضية أنّ هناك أنماط الشخصياتِ والمواقف ، وهناك فعاليات الدلالةِ للإحالة الى النصوص بعينها ، ففي تحليل الكاتبة الناقدة لديوان «ما أمرّ العنب» لشفيق حبيب ، فإنّه يمكننا القول أنَّ تناص الإمتصاص وتناص الإجترار اللذين اوردتهما الكاتبة يدخلان في إطار شكل «الما بين نصيّة» (Paratextuality) الذي يُعنى بالنصوص الموجودة حول النص مثل العناوين ونصوص التقديم والتذييل وعلاقتها بالنص الأصلي ، أي أنها تحدّد علاقة النص بمحيطهِ المباشر . وكذلك ، يتمحور التناص هنا على «الميتانصيّة» (Metatextuality) ، وهي العلاقة التي تربط نصًّا بآخر يتحدث عنه دون اقتباس جملٍ منه بالضرورة ، وهذا يتمظهر فيما سبق من النصوص الشعرية . وأخيرًا نلمحُ جازمين في هذا الشكل «الشمولية النصيّة» (Architextuality) والتي تعني علاقة صامتة أو ضمنية دالة على انتماء وتصنيف كما يتبيّن من معانٍ تناصيّة جاءت في ديوان «ما أمرّ العنب» المشار إليهِ آنفًا . وبهذا يغدو هذا النصّ الحداثي فضاءً لتداخُل النصوص ، ترتهن دلالاتُهُ بمدى علاقتِهِ بالنصوص المتلاشية في نسيجهِ . إنّ النقد الذي اتبَعتْهُ الدكتورة جهينة في مقالات كتابِها هو نقد تقييمي مقرون بنقدٍ منهجي من حيث أنّ نقد كاتبتِنا التقييمي هو النقد الذي يعيد فهم النصوص وتفسيرها وتوليد الجديد منها في ضوء الثقافة الجديدة . فالنقد الفني لديها متأثرٌ بمذاهبِ الفكر والسياسة والاجتماع . أما النقد المنهجي الذي تستخدمُهُ الكاتبة ، فهو ذلك النقد الذي يقوم على منهجٍ تدعمُهُ أسسٌ نظرية أو تطبيقيّة عامة ويتناول بالدرس مدارسَ أدبيةً شعريةً أو شعراء ، كتناولِ الناقدة هنا لتمثّلاتِ الميتاشعرية في الشعر الفلسطيني بإتيانها لديوان «عرّاب الريح» للشاعر عبد السلام العطاري أنموذجًا ، حيث تتناول النصوص باستقصاء ، ودراسة وإمعان ، وتحليل ، وتعليل من خلال استخدام الناقدة لمقاييس عدّة في نقدها كالمقاييس الشعرية التقليدية ، والمقاييس اللغوية ، والمقاييس البيانية ، والمقاييس الإنسانية والعقلية . وبهذا نرى أنّ نقدها نابعٌ من الفكرة بأنّ قوانين الفن مستمدة من العمل الفني نفسِهِ .

من المهم أن نشيرَ الى أنّه ليست هناك مواصفات جاهزة أو صيغ ثابتة تضمنُ فهمَ وتذوُّقَ جميعِ أنواع الشعر ، أو حتى قصائد معينة ، كما أنّه ليست هناك طريقة واحدة «صحيحة» مطلقة بسبب تنوُّع القصائد والاغراض الشعرية من جهة وبسبب اختلاف بُنى القصائد من حيث ترتيب عناصرها الفنيّة على ألّا تعني هذه التحرّزات والاستثناءات أنّه لا يمكننا أن نضعَ خطوطًا عامة أو نقترح أُسُسًا أولية لتحليل الشعر الفلسطيني الذي نحن بصدد عملية نقده من جانب الدكتورة جهينة التي أرى أنّ في بعض مقالات كتابها عن عددٍ من الشعراء قد حملّت تحليلِ أعمالهِم أكثر مما يحتمل من الخطوط العامة لتحليل وتقويم أشعارهم حيث أن بعض المختارات من مِثل هذه الأشعار لا يرقى بها الأمر أن تشكِّلَ أنموذجًا تمثيليًا وافيًا وكافيًا لعنوان الموضوع مثار البحث النقدي المطروح .

ونأتي الآن الى ما عالجته الناقدة من ظواهر سيميائية في الشعر الفلسطيني حيث تُورِدُ للبحثِ ديوان «سفر النرجس» للشاعر سليمان دغش أنموذجًا وفيهِ تُظهِر الكاتبة الناقدة سهولةَ استيعابِ فحوى نمطِ الوجود السيميائي ، الواقعي والمخيالي، وذلك من خلال مقاربة تشرح لنا ، انطلاقًا من اللغة دائمًا ، كيف يمكن التعاطي مع انسجامهِ الداخلي . وقد نجحت الكاتبة في تحليلها أنّ العالم يتحوَّل الى معنى – الى لغة – من خلال الجسد المُدرِك ، ومن خلالهِ تُستبطَن الإستنباهات الخارجية (exteroceptive) ، وهي مرتبطة بعلاقة الإنسان بعالمهِ الخارجي أي هي ما يتأتّى من الخارج ، ويتم تناول التشخيص باعتباره نمطًا في التفكير كما تمارسُهُ الذات .

وفي حديثنا عن موضوعة «شعرية الحنين والغربة في الشعر الفلسطيني» ندرك من خلال ديوان «حقول العمر» للشاعر صلاح عبد الحميد الذي أوردته الكاتبة الناقدة أنموذجًا للموضوعة ، أنّ تحليل الناقدة يتّصف بالسهولةِ والبساطةِ من حيث الأفكار نظرًا لشيوع هذا النوع من الموضوعات في الشعر والأدب ، وبالتالي لا يتطلّب تَعَمقًا في سبر غور ما وراء الكلمات والسطور . وعن ملامح الفلسفةِ الوجودية في الشعر الفلسطيني تتّخذ الدكتورة من ديوان «ما يشبه الرثاء» أنموذجًا للشاعر فراس حاج محمد حيث تخبُرنا الكاتبة بأنّها تلمح الوجوديةَ في هذا الديوان من خلال التماهي مع الطبيعة بكل ما تحويه من كائنات حيّة باثًّا قلقَهُ الوجودي ، وبالتالي أنَّ الطبيعةَ هنا تتماهى مع فكر الذات الشاعرة الوجودي من إحساس بالضياع واليأس وعدميةِ الوجود . وفي ضوء هذه المعاني ، فإنّه علينا أولًا أن نشير الى أنّ الفلاسفة الوجوديين يعطوُن بصفةٍ عامةٍ انطباعًا بأنهم لا يهتمون اهتمامًا كبيرًا بالطبيعة ، فتفلسفُهم الخاص يتّخذ نقطة بدايتهِ من الإنسان وأحيانًا لا يتجه أبعد من الإنسان ، وهم بالقطع يتجنبون أية رومانتيكية للطبيعة . ومع ذلك ورغم عدم الاهتمام بالطبيعة لدى الوجودية عامةً ، فإنّنا نتفق عمومًا مع تحليل الكاتبة الناقدة للمفهوم بأنّ للوجودية القدرةَ على تقديمِ تفسيرٍ ما للطبيعة ، وهناك بالفعل عمقٌ ملحوظ في طريقهِ نظرة الوجودية الى هذه المشكلة . فالحياة هي في ذاتِها ضربٌ من الوجود يتم التوصلُ إلى انطولوجيا الحياة عن طريق تفسير انتقاصي (Privative) ، فهي تحدّد لنا ما الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع لو كان هناك ما يسمى بالحياة المحضة (Mere Aliveness) . وهكذا فإنّ الكاتبة الناقدة توحي ضمنًا في تحليلها للديوان أنموذجًا للموضوعة قيد للبحث ، أنّه من المفترض أن نفهم الكائن العضوي الحي والجوهر المادي ذاتَهُ ، من خلال خبرتنا وتجربتِنا الشخصية التي تضمُ في داخلِها نوْعَي الوجود العضوي والمادي .

وانطلاقًا ممّا تقدّم ، نستخلص أن كتاب «شرفات نقدية في الشعر الفلسطيني المعاصر» للدكتورة جهينة عمر الخطيب هو محاولة لإعادة الإعتبار الى النص الشعري الفلسطيني بالإصغاء إليهِ ، وتأملهِ ، وتمثّلهِ ، وتدبرّه من أجل استنطاق صوامتِهِ ، واستخراج دفائِنِه الغميسة ، والوقوف على ينابيع تداعياتهِ ، والعوامل الفاعلة عن ابداعه ، وكيف تفاعلت تلك العناصر وتداخلت أنسجة خيوطِها في مخيلةِ الشاعر لتنعكسَ على النص في شكل تجلّيات في التعبير ، وجماليات في الصياغة ، وتشكّلات في الإيقاع ، ولعلّ هذه المعاني هي ما تقصد إليها الكاتبة الناقدة هنا والتي تذهب الى أنّ الفن الشعري صنعةٌ ومهارة . وترى الفنّان الشاعر صانعًا . فالفن الشعري ليس عواطفَ وأحاسيسَ فحسبَ ، بل هو ، فضلًا عن ذلك ، صنعةٌ محورُها وقواعدٌ وخبرةٌ تجعلُ الشاعرَ قادرًا على إيصالِ وجدانِهِ وتجاربهِ الى الآخرين والتأثير فيهم ذهنيًا وإثارةِ احاسيسِهم شعوريًا .

فللدكتورة الكريمة جهينة الخطيب أطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من العطاء المثمر .

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم